فلعنة الله رب الناس كلهم
على سجاح ومن بالكفر أغوانا
وكان أبوه من رؤساء بني تميم في الجاهلية، وكان يقال له: ذو القوس، لأنه لما قحط مضر، بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى بلاد كسرى، وسأله أن يأذن له بالإقامة حول بلاده، فقال له: إنكم أهل غدر، فمن يضمن لي أن تفي؟ قال: أرهنك قوسي، وهو أغلى سلاحي، ومات حاجب، ورجع عطارد إلى بلاده، بلاد بني تميم، ثم رجل إلى كسرى يطلب قوس أبيه، فردها عليه، وكساه حلة غالبة، فعرضها للبيع.
( فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه...
) وفي الرواية السابعة فقال عمر: يا رسول الله إني رأيت عطارداً يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها...
وفي الرواية الثامنة وجد عمر بن الخطاب حلة من إستبرق، تباع بالسوق، فأخذها، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال...
وفي الرواية العاشرة فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم....
والظاهر أن عمر أخذ الحلة من عطارد ليعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم ليشتريها، فلما رفض شراءها أعادها إلى عطارد.
ونقل الحافظ ابن حجر عن الطبراني عن عطارد نفسه أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج، كساه إياه كسرى، قال الحافظ: والجمع بين هذا وبين حديث رفض الشراء أن عطارداً لما أقامه في السوق ليباع، لم يتفق له بيعه، فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم.
اهـ وهذا الجمع بعيد، لأن ما يرفض شراءه صلى الله عليه وسلم يرفض قبول هديته في ذات الوقت، وروايتنا السادسة تقول ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل وروايتنا السابعة تقول فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء وروايتنا الثامنة تقول فلبث عمر ما شاء الله، ثم أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج...
وتقول روايتنا السابعة عشرة لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قباء من ديباج، أهدي له، ثم أوشك أن نزعه، فأرسل به إلى عمر بن الخطاب، فقيل له: قد أوشك ما نزعت يا رسول الله؟ فقال: نهاني عنه جبريل، فجاء عمر يبكي.. وتقول روايتنا الثامنة عشرة عن علي رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سبراء، فبعث بها إلي، فلبستها، فعرفت الغضب في وجهه، فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها....
وطريق الجمع بين هذه الأحاديث سهل، فقد كانت حلة عطارد من الحرير الخالص الواضح لخبراء الحرير وغير خبراء الحرير، وكان الهدف شراءها ولبسها، فرفض الشراء واللباس، ومنع على من له خلاق إسلامي، ثم أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة، ثم حلل أخرى، غير حلة عطارد قد تكون إحداها من عطارد، أهداها إليه كسرى، لأنه كان يتردد عليه، ويصيب منه، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل من الفيء ونحوه، فكان أن أرسل إحداها إلى عمر، وأخرى إلى علي، وكانت القاعدة أن يلبسها النساء، لا الرجال، أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس حلة، ثم نزعها فتلك حلة اختلط حريرها بغيره، وظنها صلى الله عليه وسلم من غير الممنوعات، فأوحي إليه بنزعها، وتطبيق القاعدة عليها.
ولو في قوله لو اشتريت هذه؟ فلبستها للتمني، أو للشرط، وجوابها محذوف، أي لكان حسناً.
( فلبستها للناس يوم الجمعة؟ وللوفد إذا قدموا عليك) وفي الرواية السابعة فلو اشتريتها، فلبستها لوفود العرب، إذا قدموا عليك؟ ولبستها يوم الجمعة قال الحافظ ابن حجر: وكأنه خصه بالعرب لأنهم كانوا إذ ذاك الوفود في الغالب، لأن مكة لما فتحت بادر العرب بإسلامهم، فكان كل قبيلة ترسل كبراءها ليسلموا، ويرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، وفي الرواية الثامنة يا رسول الله، ابتع هذه، فتجمل بها للعيد وللوفد فبعض الروايات ذكر العيد، وبعضها ذكر الجمعة، ويجمع بالأخذ بالروايتين، وعند النسائي فتجمل بها لوفود العرب إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره.
( إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) في الرواية السابعة إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة وفي الرواية الثامنة إنما هذه لباس من لا خلاق له وفي الرواية التاسعة إنما يلبس هذا من لا خلاق له والخلاق النصيب، وقيل: الحظ، وهو المراد هنا أي من لا حظ له ولا نصيب، ويطلق أيضاً على الحرمة، وعلى الدين، أي من لا حرمة له، أو من لا دين له.
( فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها) قال ذلك باعتبار ما فهم هو، وإلا فقد ظهر من بقية الحديث أنه لم يبعث بها إليه ليلبسها، ويحتمل أن المراد من كسوتنيها أعطيتني ما يصلح أن يكون كسوة، والأول أوجه.
وفي الرواية الثامنة فأقبل بها عمر، حتى أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله.
قلت: إنما هذه لباس من لا خلاق له -أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له، ثم أرسلت إلي بهذه؟ وفي الرواية السابعة عشرة فجاء عمر يبكي، فقال: يا رسول الله.
كرهت أمراً، وأعطيتنيه؟ فما لي؟ وفي رواية فجاء عمر بحلته يحملها، فقال: بعثت إلي بهذه، وقد قلت بالأمس -أي في زمن مضى- في حلة عطارد ما قلت.... وفي رواية عن عمر قال: فخرجت فزعاً، فقلت: يا رسول الله، ترسل بها إلي؟ وقد قلت فيها ما قلت؟.
( إني لم أكسكها لتلبسها) لم أكسكها من قبيل المشاكلة لقوله كسوتنيها والمراد لم أعطكها لتلبسها، ففي الرواية السابعة لم أبعث بها إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها لتصيب بسببها نفعاً لك بأن تلبسها زوجاتك، أو تهبها لمن يلبسها، أو تبيعها فتصيب بها مالاً، وفي الرواية الثامنة تبيعها، وتصيب بها حاجتك وفي الرواية التاسعة إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها وفي ملحقها إنما بعثت بها إليك لتنتفع بها وفي الرواية السابعة عشرة إنما أعطيتكه تبيعه وفي الرواية الواحدة والعشرين إنما بعثت بها إليك لتنتفع بثمنها، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم أسامة في الرواية السابعة بقوله إني لم أبعث إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين نسائك أي لتقطعها قطعاً، فتفرقها على نسائك خمراً، والخمر بضم الخاء والميم جمع خمار، بكسر الخاء وفتح الميم مخففة، وهو ما تغطي به المرأة رأسها.
وأجاب صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بقوله في الرواية الثامنة عشرة إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء وفي الرواية التاسعة عشرة شققه خمراً بين الفواطم وفي ملحقها بين النسوة وفي الرواية المتممة للعشرين قال علي: فشققتها بين نسائي، وفي الرواية الثامنة عشرة فأطرتها بين نسائي أي قسمتها بين نسائي، يقال: أطار لي في القسم كذا، أي صار لي كذا، وقد روى الطحاوي عن علي رضي الله عنه في هذه القصة، قال: فشققت منها أربعة أخمرة، خماراً لفاطمة بنت أسد بن هاشم، أم علي، وخماراً لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وخماراً لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخماراً لفاطمة أخرى لم يذكر الراوي اسمها، قال عياض: لعلها فاطمة، امرأة عقيل بن أبي طالب، لاختصاصها بعلي رضي الله عنه بالمصاهرة، وقربها إليه بالمناسبة، وهي بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: بنت عتبة بن ربيعة، وقيل: بنت الوليد بن عتبة، وهي من المبايعات، وشهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين.
( فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة) في الرواية السابعة عشرة فباعه -أي عمر- بألفي درهم وفي رواية عند النسائي أخاً له من أمه وفي رواية للبخاري فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم قال النووي: وهذا يشعر بأنه أسلم بعد ذلك، وقال الحافظ ابن حجر: نقل عن ابن الحذاء في رجال الموطأ أن اسمه عثمان بن حكيم.
وقال الدمياطي: هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقصي، قال: وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه، فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأمه لم يصب، قال الحافظ ابن حجر: بل له وجه بطريق المجاز، ويحتمل أن يكون عمر ارتضع من أم أخيه زيد، فيكون عثمان بن حكيم أخا عمر لأمه من الرضاع، وأخا زيد لأمه من النسب، قال الحافظ: ولم أقف على اسمه في الصحابة، فإن كان قد أسلم فقد فاتهم، فليستدرك، وإن كان مات كافراً، كان قوله قبل أن يسلم لا مفهوم له، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره، مع قطع النظر عما وراء ذلك.
اهـ
وقد جمع الحافظ ابن حجر بين رواية بيع عمر له بألفي درهم، ورواية إرساله لأخيه المشرك بمكة بقوله: إن كان حديث البيع محفوظاً أمكن أن يكون عمر باعه بإذن أخيه، بعد أن أهداه له.
اهـ
( قال لي سالم بن عبد الله في الإستبرق) في رواية البخاري والنسائي قال لي سالم: ما الإستبرق؟ قال: قلت: ما غلظ من الديباج وهذا معنى رواية مسلم التي معنا، لكنها هنا مختصرة، ومعناها: قال لي سالم في الإستبرق: ما هو؟ فقلت: ما غلظ إلخ.
قال النووي: فرواية مسلم صحيحة، لا قدح فيها، وقد أشار القاضي عياض إلى تغليطها، وأن الصواب رواية البخاري، وليست بغلط، بل صحيحة، كما أوضحناه.
اهـ
( العلم في الثوب) بفتح العين واللام، وهو ما يكون في الثوب من تطريف أو تطريز ونحوهما بالحرير.
( أما ما ذكرت من رجب، فكيف بمن يصوم الأبد؟) هذا الجواب إنكار منه لما بلغها عنه من تحريمه، وإخبار بأنه يصوم رجب كله، وأنه يصوم الأبد، والمراد بالأبد ما سوى العيدين والتشريق.
( وأما ما ذكرت من العلم في الثوب، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول...
إنما يلبس الحرير من لا خلاق له، فخفت أن يكون العلم منه) هذا الجواب ليس اعترافاً منه بأنه كان يحرمه، بل إخباراً بأنه تورع عنه، خوفاً من دخوله في عموم النهي عن الحرير.
( وأما مئثرة الأرجوان فهذه مئثرة عبد الله، فإذا هي أرجوان) هذا الجواب إنكار لما بلغها عنه فيها، قال النووي: والمراد أنها حمراء، وليست من حرير، بل من صوف أو غيره، وقد تكون من الحرير، وقد تكون من الصوف، وأن الأحاديث الواردة في النهي عنها مخصوصة بالتي هي من الحرير.
( فأخرجت إلى جبة طيالسة كسروانية، لها لبنة ديباج) الطيالسة جمع طيلسان، بفتح اللام على المشهور، وذكر القاضي أن الطيلسان يقال بفتح اللام وضمها وكسرها.
قال النووي: وهذا غريب ضعيف، والطيلسان الثوب الذي له علم، وقد يكون كساء وجبة طيالسة بإضافة جبة إلى طيالسة والكسروانية بكسر الكاف وفتحها، والسين ساكنة، والراء مفتوحة، ونقل القاضي أن جمهور الرواة رووه بكسر الكاف، وهو نسبة إلى كسرى، ملك الفرس، وفيه كسر الكاف وفتحها، قال القاضي: ورواه الهروي في مسلم فقال خسروانية واللبنة بكسر اللام وسكون الباء رقعة في جيب القميص.
( وفرجيها مكفوفين بالديباج) قال النووي: هكذا وقع في جميع النسخ وفرجيها مكفوفين وهما منصوبان بفعل محذوف، أي ورأيت فرجيها مكفوفين، ومعنى المكفوف أنه جعل لها كفة -بضم الكاف- وهو ما يكف به جوانبها، ويعطف عليها، ويكون ذلك في الذيل وفي الفرجين وفي الكمين.
اهـ والمراد هنا من الفرجين بفتح الفاء وسكون الراء الفتحتان الجانبيتان اللتان تخرج اليدان منهما.
( نغسلها للمرضى، يستشفى بها) أي يتبرك بماء غسيلها المريض، فيشفيه الله.
( لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) قيل: فإنه لا يدخل الجنة، لأن لباسهم فيها حرير، وقيل: قد يدخل الجنة ولا يشتهيه ولا يلبسه.
وفي الرواية الرابعة وهو لكم في الآخرة يوم القيامة قال النووي: جمع بين الآخرة ويوم القيامة لأنه قد يظن أنه بمجرد موته صار في حكم الآخرة في هذا الإكرام، فبين أنه إنما هو في يوم القيامة، وبعده في الجنة أبداً، ويحتمل أن المراد أنه لكم في الآخرة من حين الموت، ويستمر في الجنة أبداً.
اهـ
وفي الرواية الرابعة عشرة لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة.
( عن زهير عن عاصم الأحول عن أبي عثمان قال: كتب إلينا عمر) أبو عثمان كان واحداً من جند تحت إمرة عتبة بن فرقد، والكتاب موجه إلى القائد، فقول أبي عثمان كتب إلينا أي لأجلنا، أي كتب إلى القائد ليقرأه علينا، فقرأه علينا، وفي الرواية الرابعة عشرة عن أبي عثمان كنا مع عتبة بن فرقد، فجاءنا كتاب عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال...
قال النووي: هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على البخاري ومسلم، وقال: هذا الحديث لم يسمعه أبو عثمان من عمر، بل أخبر عن كتاب عمر، وهذا الاستدراك باطل، فإن الصحيح الذي عليه جماهير المحدثين ومحققو الفقهاء والأصوليين جواز العمل بالكتاب، وروايته عن الكاتب، سواء قال في الكتاب: أذنت لك في رواية هذا عني، أو أجزتك روايته عني، أو لم يقل شيئاً، وقد أكثر البخاري ومسلم وسائر المحدثين والمصنفين في تصانيفهم من الاحتجاج بالمكاتبة، فيقول الراوي: كتب إلي فلان كذا، أو كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان، أو أخبرني فلان مكاتبة، ومنه هذا الذي نحن فيه، وذلك معمول به عندهم، معدود في المتصل، لإشعاره بمعنى الإجازة، وزاد السمعاني، فقال: المكاتبة أقوى من الإجازة، ودليلهم في المسألة الأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب إلى عماله ونوابه وامرائه، ويفعلون ما فيها، وكذلك الخلفاء، ومن ذلك كتاب عمر هذا رضي الله عنه، فإنه كتبه إلى جيشه، وفيه خلائق من الصحابة، فدل على حصول الاتفاق منه وممن عنده في المدينة، ومن في الجيش على العمل بالكتاب، ثم قال: وينبغي للراوي بالمكاتبة أن يقول: كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان مكاتبة، أو في كتابه، أو فيما كتب به إلي، ونحو ذلك، ولا يجوز أن يطلق قوله: حدثنا ولا أخبرنا.
هذا هو الصحيح، وجوزه طائفة من متقدمي أهل الحديث وكبارهم.
( ونحن بأذربيجان) دولة معروفة وراء العراق، وفي ضبط اللفظ وجهان مشهوران: أفصحهما وقول الأكثرين بفتح الهمزة بغير مد، وإسكان الذال وفتح الراء وكسر الباء، وهذا هو الأشهر، والثاني مد الهمزة وفتح الذال وفتح الراء وكسر الباء.
( يا عتبة بن فرقد، إنه ليس من كدك، ولا من كد أبيك، ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك) الضمير في إنه للمال الذي يتمتع به عتبة، كقائد، والكد التعب والمشقة، والمراد من الرحال المنازل، والمعنى: إن هذا المال الذي عندك، والذي تتمتع به فوق تمتع من معك من الجند، ليس هو من كسبك، وليس هو مما تعبت أنت فيه، وبذلت لتحصيله المشقة والعناء، وليس من كد أبيك وأمك، فورثته منهما، بل هو مال المسلمين، فأنت وهم فيه شركاء، فلا تختص عنهم بشيء، بل أشبعهم منه، وهم في منازلهم، كما تشبع نفسك وأهلك، جنساً وقدراً وصفة، ولا تحوجهم إلى المطالبة بأرزاقهم، بل أوصلها إليهم، وهم في منازلهم بلا طلب.
والسبب في هذا الكتاب العنيف ما رواه أبو عوانة في صحيحه أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر، مع غلام له، بسلال -بضم السين وتخفيف اللام، جمع سل بفتح السين وكسرها مع تشديد اللام، وسلة بفتح السين واللام المشددة، وهي وعاء من شقاق القصب ونحوه، تحمل فيه الفاكهة ونحوها -فيها خبيص أي حلواء مخلوطة بالتمر والسمن- عليها اللبود -ضرب من البسط، وما يوضع تحت السرج- فلما رآه عمر قال: أيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قيل له: لا.
فقال عمر: لا أريده، وكتب إلى عتبة بهذا الكتاب.
( وإياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير) زاد في رواية علي بن الجعد فاتزروا، وارتدوا، وانتعلوا، وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، واخشوشنوا، واخلولقوا ومقصود عمر رضي الله عنه حثهم على خشونة العين، وصلابتهم، لما سيلقونه من شدائد والزي بكسر الزاي وتشديد الياء الهيئة والمنظر، واللباس، فالنهي عن التشبه بأهل الشرك فيما لا يوافق الشرع، ولبوس الحرير بفتح اللام، وتخفيف الباء ما يلبس، أي إياكم وملبوس الحرير، قال تعالى: { { وعلمناه صنعة لبوس لكم } } [الأنبياء: 80] أي ملبوس لكم.
( نهى عن لبوس الحرير -قال: إلا هكذا- ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه، الوسطى والسبابة، وضمهما) في هذه الرواية أن الذي رفع إصبعيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفسير الإصبعين لعمر على ما هو الظاهر، وفي آخر الرواية ورفع زهير إصبعيه وفي الرواية الرابعة عشرة وقال أبو عثمان بإصبعيه اللتين تليان الإبهام وعند البخاري وأشار أبو عثمان بإصبعين، المسبحة والوسطى ولا تخالف، فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار أولاً، ثم نقله عنه عمر، فبين بعد ذلك بعض رواية صفة الإشارة، وأشار بعضهم نفس الإشارة.
( هذا في الكتاب) الإشارة إلى رفع الإصبعين، والمراد من الكتاب كتاب عمر، أي ليست إشارة أبي عثمان من إنشائه، بل هي في كتاب عمر.
( فرئيتهما أزرار الطيالسة حين رأيت الطيالسة) أي فرئيت مقدار الإصبعين قال القرطبي: الأزرار جمع زر، وهو ما يزرر به الثوب، بعضه على بعض، والمراد به هنا أطراف الطيالسة، وكان للطيالسة التي رآها أعلام حرير في أطرافها.
اهـ قال النووي: فرئيتهما بضم الراء وكسر الهمزة، وضبطه بعضهم بفتح الراء.
اهـ وفي رواية فرأيناها أزرار الطيالسة حين رأينا الطيالسة.
( فما عتمنا أنه يعني الأعلام) قال النووي: هكذا ضبطناه عتمنا بعين مفتوحة، ثم تاء مشددة مفتوحة، ثم ميم ساكنة، ثم نون، ومعناه ما أبطأنا في معرفة أنه أراد الأعلام، يقال: عتم الشيء إذا أبطأ وتأخر، وعتمته إذا أخرته، فهذا الذي ذكرناه من ضبط اللفظة وشرحها هو الصواب المعروف الذي صرح به جمهور الشارحين وأهل غريب الحديث، وذكر القاضي فيه عن بعضهم تغييراً واعتراضاً، لا حاجة إلى ذكره.
اهـ
( أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية) مدينة بالشام.
( لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قباء من ديباج أهدي له) في الرواية الرابعة والعشرين أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير القباء بفتح القاف وبالباء، ممدود، فارسي معرب، وقيل، عربي، واشتقاقه من القبو، وهو الضم، وترجم البخاري: باب القباء وفروج حرير، وهو القباء، ويقال: هو الذي له شق من خلفه.
اهـ وقال ابن فارس: هو قميص الصبي الصغير، وقال القرطبي: القباء والفروج كلاهما ثوب ضيق الكمين والوسط، مشقوق من خلف، يلبس في السفر والحرب، لأنه أعون على الحركة.
اهـ
وفروج حرير يجوز فيه الإضافة، ويجوز فيه التنوين، كثوب خز، وفروج يحتمل ضم الفاء وفتحها رواية، والفتح أوجه، وقال القرطبي، حكي الضم والفتح، والضم هو المعروف، ويحتمل تشديد الراء وتخفيفها، حكاه عياض ومن تبعه، ويحتمل بجيم في آخره، أو بخاء في آخره، حكاه عياض أيضاً، وفي رواية أحمد فروج من حرير.
وفي الرواية الرابعة والعشرين فلبسه، ثم صلى فيه، ثم انصرف وعند أحمد ثم صلى فيه المغرب وفي رواية ابن إسحق فلما قضى صلاته وفي رواية فلما سلم من صلاته، وهو المراد من الانصراف في رواية مسلم.
( ثم أوشك أن نزعه) في الرواية الرابعة والعشرين فنزعه نزعاً شديداً، كالكاره له زاد أحمد عنيفاً أي بقوة ومبادرة لذلك، على خلاف عادته في الرفق والتأني، وعند أحمد ثم ألقاه، فقلنا: يا رسول الله، قد لبسته، وصليت فيه؟ وفي روايتنا السابعة عشرة فقيل له: قد أوشك ما نزعته يا رسول الله؟ فقال: نهاني عنه جبريل قال النووي: فيكون هذا أول التحريم، وفي الرواية الرابعة والعشرين ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين قال القرطبي: المراد بالمتقين المؤمنون، لأنهم الذين خافوا الله تعالى واتقوه بقوة إيمانهم وطاعتهم له، وقال غيره: لعل هذا من باب التهييج للمكلف على الأخذ بذلك، لأن من سمع أن من فعل ذلك كان غير متق، فهم منه أنه لا يفعله إلا المستخف، فيأنف من فعل ذلك، لئلا يوصف بأنه غير متق.
( أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير) قال النووي: أكيدر دومة بضم الدال وفتحها لغتان مشهورتان، وزعم ابن وريد أنه لا يجوز إلا الضم، وأن المحدثين يفتحونها، وأنهم غالطون في ذلك.
وليس كما قال، بل هما لغتان مشهورتان، قال الجوهري: أهل الحديث يقولونها بالضم، وأهل اللغة يفتحونها، ويقال لها أيضاً دوماً وهي مدينة، لها حصن عادي، وهي في برية، في أرض نخل وزرع، يسقون بالنواضح، وحولها عيون قليلة، وغالب زرعهم الشعير، وهي تبعد عن المدينة على نحو ثلاث عشرة مرحلة، وعن دمشق على نحو عشر مراحل، وعن الكوفة على قدر عشر مراحل أيضاً.
قال: وأما أكيدر فهو بضم الهمزة وفتح الكاف وهو أكيدر بن عبد الملك الكندي، كان نصرانياًً، ثم أسلم، وقيل: مات نصرانياً، وقال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما في معرفة الصحابة: إن أكيدرا هذا أسلم، وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، قال ابن الأثير: أما الهدية والمصالحة فصحيحان، وأما الإسلام فغلط، قال: لأنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير، ومن قال: أسلم فقد أخطأ خطأ فاحشاً، قال: وكان أكيدر نصرانياً، فلما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه، وبقي فيه، ثم حاصره خالد بن الوليد في زمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقتله مشركاً نصرانياً، يعني لنقضه العهد، وذكر البلاذري أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى دومة فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد أكيدر، فلما سار خالد من العراق إلى الشام قتله، وعلى هذا القول لا ينبغي عده في الصحابة.
هذا كلام ابن الأثير.
والله أعلم.
( رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القمص الحرير، في السفر، من حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما) وفي الرواية السادسة والعشرين في لبس الحرير وفي السابعة والعشرين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص لهما في قمص الحرير، في غزاة لهما الحكة بكسر الحاء وتشديد الكاف، نوع من الجرب، وذكر الحكة مثالاً، لا قيداً، وترجم له البخاري في كتاب الجهاد بباب الحرير في الحرب، لقوله في غزاة لهما وترجم له في اللباس بباب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة، ولم يقيده بالحرب، فزعم بعضهم أن الحرب في الترجمة بالجيم وفتح الراء، وليس كما زعم، لأنها لا يبقى لها في أبواب الجهاد مناسبة، ويلزم منه إعادة الترجمة في اللباس، إذ الحكة والجرب متقاربان.
فقه الحديث
هذه الأحاديث في موضوعين مختلفين: موضوع استعمال أواني الذهب والفضة في الطعام والشراب، وتتعرض له الروايات الخمس الأولى، وكان حقها أن تلحق بكتاب الأطعمة والأشربة، وإن كان بعضها قد تعرض لخواتيم الذهب ولبس الحرير، وقد ترجم النووي للرواية الأولى والثانية بباب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء، وذلك تحت كتاب اللباس والزينة، ولعله لاحظ أن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة من قبيل الزينة.
والموضوع الثاني لبس الحرير واستعماله، وقد ترجم النووي للروايات من الثالثة حتى الرابعة والعشرين بباب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجال، وإباحته للنساء، وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع.
فأعاد عنوان الباب السابق، من أجل الرواية الثالثة والرابعة والخامسة، أما الروايات من السادسة حتى السابعة والعشرين فلا تتعرض لآنية الذهب والفضة، كما ترجم للروايات الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين والسابعة والعشرين بباب إباحة لبس الحرير للرجل، إذا كان به حكة ونحوهما.
ونحن نحصر الكلام في موضوعين أساسيين، أو في ثلاث نقاط: استعمال أواني الذهب والفضة في الطعام والشراب وغيرهما، ولبس الحرير واستعماله، وما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام الإضافية.
أما الموضوع الأول: أو النقطة الأولى، فقد قال النووي: أجمع المسلمون على تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب وإناء الفضة، على الرجل وعلى المرأة، ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء، إلا ما حُكي عن داود وقول الشافعي في القديم، فهما مردودان بالنصوص والإجماع، وهذا إنما يحتاج إليه على قول من يعتد بقول داود في الإجماع والخلاف، وإلا فالمحققون يقولون: لا يعتد به، لإخلاله بالقياس، وهو أحد شروط المجتهد الذي يعتد به، ثم قال: وأما قول الشافعي القديم [وظاهره أن النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة للتنزيه، لأن علته ما فيه من التشبه بالأعاجم] فقال صاحب التقريب: إن سياق كلام الشافعي في القديم يدل على أنه أراد أن نفس الذهب والفضة الذي اتخذ منه الإناء ليس حراماً، ولهذا لم يحرم الحلي على المرأة.
هذا كلام صاحب التقريب، وهو من متقدمي أصحابنا، وهو أتقنهم لنقل نصوص الشافعي، ولأن الشافعي رجع عن هذا القديم، والصحيح عند أصحابنا وغيرهم من الأصوليين أن المجتهد إذا قال قولاً، ثم رجع عنه، لا يبقى قولاً له، ولا ينسب إليه، قالوا: وإنما يذكر القديم، وينسب إلى الشافعي مجازاً، وباسم ما كان عليه، لا أنه قول له الآن، فحصل مما ذكرناه أن الإجماع منعقد على تحريم استعمال إناء الذهب وإناء الفضة في الأكل والشرب والطهارة، والأكل بملعقة من أحدهما، والتجمر بمجمرة منهما، والبول في إناء منهما، وجميع وجوه الاستعمال، ومنها المكحلة والميل وظرف الغالية -أو وعاء الطيب- وغير ذلك، سواء الإناء الصغير والكبير، ويستوي في التحريم الرجل والمرأة بلا خلاف، وإنما فرق بين الرجل والمرأة في التحلي لما يقصد منها من التزين للزوج والسيد، قال أصحابنا: ويحرم استعمال ماء الورد، والأدهان من قارورة الذهب والفضة، قالوا: فإن ابتلي بطعام في إناء ذهب أو فضة فليخرج الطعام إلى إناء آخر من غيرهما، ويأكل منه، فإن لم يكن إناء آخر فليجعله على رغيف إن أمكن، وإن ابتلي بالدهن في قارورة فضة فليصبه في يده اليسرى، ثم يصبه من اليسرى في اليمنى، ويستعمله.
قال أصحابنا: ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس بأواني الفضة والذهب هذا هو الصواب، وجوزه بعض أصحابنا، قال: وهو غلط.
قال الشافعي والأصحاب: لو توضأ أو اغتسل من إناء الذهب أو الفضة عصى بالفعل، وصح وضوؤه وغسله، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة والعلماء كافة، إلا داود، فقال: لا يصح، والصواب الصحة، وكذا لو أكل منه أو شرب عصى بالفعل، ولا يكون المأكول والمشروب حراماً، هذا كله في حال الاختيار، أما إذا اضطر إلى استعمال إناء، فلم يجد إلا ذهباً أو فضة، فله استعماله في حال الضرورة بلا خلاف، صرح به أصحابنا، قالوا: كما تباح الميتة في حال الضرورة، قال أصحابنا: ولو باع هذا الإناء صح بيعه، لأنه عين طاهرة، يمكن الانتفاع بها بأن تسبك، وأما اتخاذ هذه الأواني من غير استعمال فللشافعي والأصحاب فيه خلاف، والأصح تحريمه، والثاني كراهته، فإن كرهناه استحق صانعه الأجرة، ووجب على كاسره أرش النقص، وإلا فلا.
وأما إناء الزجاج النفيس فلا يحرم بالإجماع، وأما إناء الياقوت والزمرد والفيروز ونحوها فالأصح عند أصحابنا جواز استعمالها، ومنهم من حرمها.
هذا آخر كلام النووي -وقال الحافظ ابن حجر- وهو شافعي كالنووي-: والأكل في جميع الآنية مباح إلا إناء الذهب وإناء الفضة، واختلف في الإناء الذي فيه شيء من ذلك، إما بالتضبيب، وإما بالخلط، وإما بالطلاء، قال: وحديث حذيفة [روايتنا الرابعة] فيه النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، ويؤخذ منع الأكل بطريق الإلحاق، لكن [روايتنا الخامسة] فيها ذكر الأكل، فيكون المنع منه بالنص أيضاً، وهذا ظاهر في الذي جميعه ذهب أو فضة، أما المخلوط أو المضبب أو المموه، وهو المطلي فورد فيه حديث، أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر، رفعه من شرب في آنية الذهب والفضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم قال البيهقي: المشهور عن ابن عمر موقوف عليه، وعند الطبراني في الأوسط، من حديث أم عطية نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفضيض الأقداح، ثم رخص فيه للنساء.
ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة، إلا عن معاوية بن قرة، أحد التابعين، فكأنه لم يبلغه النهي.
وقال القرطبي وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما، مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت، فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب، لأنه لم يقف على الزيادة في الأكل.
قال: واختلف في علة المنع، فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله هي لهم وقيل: لكونهما الأثمان، وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالهما لجاز اتخاذ الآلات منهما، فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس، فيجحف بهم، ومثله الغزالي بالحكام، الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس، ويرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية.
وقيل: علة التحريم السرف ويرد عليه جواز الحلي للنساء منهما، وجواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ، بل نقل بعضهم الإجماع على الجواز.
وقيل: علة التحريم الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، ويرد عليه ما ورد في سابقه، إلا أن يقال: إن غالبية الفقراء لا يعرفون قيمة هذه الجواهر، فهي والزجاج عندهم سواء، فلا تنكسر قلوبهم، بخلاف الذهب والفضة.
وقيل: علة التحريم التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر، لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك.
والأمر -عندي- يشبه أن تكون الحكمة في التحريم مجموع هذه الأمور، وكل منها جزء علة، ولا يضر وجود جزء العلة مع تخلف الحكم.
والله أعلم.
ثم قال الحافظ ابن حجر: واختلف في اتخاذ الأواني، دون استعمالها، والأشهر المنع، وهو قول الجمهور، ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال.
والله أعلم.
الموضوع الثاني: لبس الحرير واستعماله، وعنه يقول النووي: لبس الحرير والإستبرق والديباج والقسي، كله حرام على الرجال، سواء لبسه للخيلاء أو غيرها، إلا أن يلبسه للحكة، فيجوز في السفر والحضر، وأما النساء فيباح لهن لبس الحرير بجميع أنواعه، وخواتيم الذهب وسائر الحلي منه ومن الفضة، سواء المزوجة وغيرها، والشابة والعجوز، والغنية والفقيرة.
وقال: هذا الذي ذكرناه من تحريم الحرير على الرجال، وإباحته للنساء هو مذهبنا ومذهب الجماهير، وحكى القاضي عن قوم إباحته للرجال والنساء، وعن ابن الزبير: تحريمه عليهما، ثم انعقد الإجماع على إباحته للنساء، وتحريمه على الرجال، ويدل عليه الأحاديث المصرحة بالتحريم، مع الأحاديث التي ذكرها مسلم في تشقيق علي رضي الله عنه الحرير بين نسائه، وبين الفواطم خمراً لهن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، كما صرح به في الحديث [روايتنا الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين] .
قال: وأما الصبيان فقال أصحابنا: يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد، لأنه لا تكليف عليهم، وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه: أصحها جوازه، والثاني تحريمه، والثالث يحرم بعد سن التمييز.
ثم قال النووي عن روايتنا الثانية عشرة، وخطبة ابن الزبير، وقوله لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة قال النووي: هذا الحديث الذي احتج به إنما ورد في لبس الرجال لوجهين: أحدهما أنه خطاب ذكور، ومذهبنا ومذهب محققي الأصوليين أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال عند الإطلاق، والثاني أن الأحاديث الصحيحة التي ذكرها مسلم صريحة في إباحته للنساء، وأمره صلى الله عليه وسلم علياً وأسامة بأن يكسواه نساءهما مع الحديث المشهور أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحرير والذهب: إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها.
اهـ أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم.
ثم قال النووي عن روايتنا الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة: في هذه الروايات إباحة العلم من الحرير في الثوب، إذا لم يزد على أربع أصابع، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وعن مالك رواية بمنعه، وعن بعض أصحابه رواية بإباحة العلم، بلا تقدير بأربع أصابع، بل قال: يجوز وإن عظم العلم، وهذان القولان مردودان بهذا الحديث الصريح.
اهـ
وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: اختلف في الحرير، فقال قوم: يحرم لبسه في كل الأحوال، حتى على النساء، نقل ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير، ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين.
وقال قوم: يجوز لبسه مطلقاً، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خيلاء، أو على التنزيه.
قال الحافظ: وهذا الثاني ساقط، لثبوت الوعيد على لبسه، ثم قال: واختلف في علة تحريم الحرير على رأيين مشهورين: أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني لكونه ثوب رفاهية وزينة، فيليق بزي النساء، دون شهامة الرجال، ويحتمل علة ثالثة، وهي التشبه بالمشركين.
أما مس الحرير من غير لبس فهو مباح، فقد روى البخاري عن البراء رضي الله عنه: أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فجعلنا نلمسه، ونتعجب منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ قلنا: نعم.
قال: مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا قال ابن بطال: النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه، بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة، فيجوز مسه وبيعه والانتفاع بثمنه.
وقال البخاري: قال عبيدة: افتراش الحرير كلبسه، وساق البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه قال الحافظ ابن حجر: وهذه الرواية حجة قوية، لمن قال بمنع الجلوس على الحرير، وهو قول الجمهور، خلافاً لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية، وأجاب بعض الحنفية بأن لفظ ونهى ليس صريحاًً في التحريم، وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس، لا عن الجلوس بمفرده، وقد يرد على ابن بطال دعواه أن الحديث نص في تحريم الجلوس على الحرير، فإنه ليس بنص، بل هو ظاهر، وقد أخرج ابن وهب في جامعه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لأن أقعد على جمر الغضى -وهو شجر من الأثل، خشبه من أصلب الخشب، وجمره يبقى زماناً طويلاً لا ينطفئ، واحدته غضاة -أحب إلي من أن أقعد على مجلس من حرير، وأدار بعض الحنفية الجواز والمنع على اللبس، لصحة الأخبار فيه، قالوا: والجلوس ليس بلبس، واحتج الجمهور بحديث أنس فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس ولأن لبس كل شيء بحسبه، واستدل به من منع النساء من افتراش الحرير، وهو ضعيف لأن خطاب الذكور لا يتناول المؤنث على الراجح، ولعل الذي قال بالمنع تمسك فيه بالقياس على منع استعمالهن آنية الذهب، مع جواز لبسهن الحلي منه، فكذلك يجوز لبسهن الحرير، ويمنعن من استعماله، وهذا الوجه صححه الرافعي، وصحح النووي الجواز، واستدل به على منع افتراش الرجل الحرير مع امرأته في فراشها، ووجهه المجيز لذلك من المالكية بأن المرأة فراش الرجل، فكما جاز له أن يفترشها وعليها الحلي من الذهب والحرير، فكذلك يجوز له أن يجلس وينام معها على فراشها المباح لها.
مع ملاحظة أن الذي يمنع من الجلوس عليه هو ما منع من لبسه، وهو ما صنع من حرير صرف، أو كان الحرير فيه أزيد من غيره، كما سبق تقريره.
ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم
1- من الرواية الأولى والثانية الوعيد الشديد لمن شرب أو أكل في أواني الذهب أو الفضة.
قال القاضي عياض: واختلفوا في المراد، فقيل: هو إخبار عن الكفار من ملوك العجم وغيرهم، الذين عادتهم فعل ذلك، كما قال في الحديث [روايتنا الرابعة] فإنه لهم في الدنيا، وهو لكم في الآخرة يوم القيامة أي هم المستعملون لها في الدنيا، وقيل: المراد نهي المسلمين عن ذلك، وأن من ارتكب هذا النهي استوجب هذا الوعيد، وقد يعفو الله عنه.
هذا كلام القاضي، ووجهة نظره أن الوعيد شديد، وغير محدد المدة، وهو لا يتناسب مع رأي أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، فهو أولى بالكافرين، وقال النووي تعقيباً على كلام القاضي: والصواب أن النهي يتناول جميع من يستعمل إناء الذهب أو الفضة من المسلمين والكفار، لأن الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
اهـ
وكلام النووي أن النهي [في روايتنا الثالثة والرابعة والخامسة] يتناول المسلمين والكافرين مسلم، لكن الوعيد الشديد الوارد في الروايتين الأولى والثانية يجرجر في بطنه نار جهنم لا يستقيم مع المذهب الصحيح.
2- وكذا الوعيد الوارد في الرواية الثالثة من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة وفي الرواية الثانية عشرة والثانية والعشرين والثالثة والعشرين فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة فقد قال الحافظ ابن حجر: زاد النسائي ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة، قال تعالى { { ولباسهم فيها حرير } } [الحج: 23] قال: وهذه الزيادة مدرجة في الحديث، وهي موقوفة على ابن الزبير، قالها ابن الزبير من رأيه، وقد جاء مثل ذلك عن ابن عمر، وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم مثل حديث ابن الزبير عن أبي سعيد وزاد فيه وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة، ولم يلبسه هو وهذا يحتمل أن يكون أيضاً مدرجاً.
ثم قال الحافظ: وأعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتض للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانع: كالتوبة، والحسنات التي توازن، والمصائب التي تكفر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا شفاعة من يؤذن له في الشفاعة، وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين.
3- من الرواية الثالثة استحباب عيادة المريض، قال النووي: وهي سنة بالإجماع، وسواء فيه من يعرفه ومن لا يعرفه، والقريب والأجنبي، واختلف العلماء في الأوكد منهما والأفضل منهما.
4- واستحباب اتباع الجنازة، وهي سنة بالإجماع أيضاً، وقد سبق إيضاحه.
5- وتشميت العاطس، وقد سبق.
6- وإبرار القسم، وقد سبق أيضاًَ.
7- ونصر المظلوم، وهي من فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- وإجابة الداعي.
9- وإفشاء السلام، وقد سبق بيانه في كتاب الإيمان، ويأتي في كتاب الاستئذان والسلام.
10- وإنشاد الضالة، وسبق تفصيله في كتاب اللقطة.
11- والنهي عن خواتيم الذهب، قال النووي: وأما خاتم الذهب فهو حرام على الرجل بالإجماع، وكذا لو كان بعضه ذهباً وبعضه فضة، حتى قال أصحابنا: لو كانت سن الخاتم ذهباً، أو كان مموهاً بذهب يسير فهو حرام.
12- ويؤخذ من أحاديث حذيفة، روايتنا الرابعة والخامسة، من رمى حذيفة بالإناء في وجه الدهقان تعزير من ارتكب معصية، لا سيما إن كان قد سبق نهيه عنها.
13- وأنه لا بأس أن يعزر الأمير بنفسه بعض مستحقي التعزير.
14- وأن الأمير أو الكبير إذا فعل شيئاً صحيحاً في نفس الأمر، غير ظاهر الوجه والعلة فينبغي أن يوضحه، وينبه على دليله، وسبب فعله ذلك.
15- ومن الرواية السادسة حتى العاشرة روايات عرض عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم شراء الحلة، من قوله عند باب المسجد جواز البيع والشراء على باب المسجد.
16- ومن محاولة عرض عمر الشراء مباشرة الصالحين والفضلاء البيع والشراء.
17- وفيه عرض المفضول على الفاضل، والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحه، مما يظن أنه لم يطلع عليه.
18- وفيه حرص عمر رضي الله عنه على ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم بمظهر الرؤساء والكبراء.
19- واستحباب لباس أنفس الثياب يوم الجمعة والعيدين، وعند لقاء الوفود ونحوهم.
20- قال ابن بطال: فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم لباس الحرير، وهذا في الدنيا، وإرادة تأخير الطيبات إلى الآخرة، التي لا انقضاء لها، إذ تعجل الطيبات في الدنيا ليس من الحزم، فزهد في الدنيا للآخرة، وأمر بذلك، ونهي عن كل إسراف وحرمه.
وتعقبه ابن المنير بأن تركه صلى الله عليه وسلم لبس الحرير إنما هو لاجتناب المعصية [ففي الرواية السابعة عشرة نهاني عنه جبريل] وأما الزهد فإنما هو في خالص الحلال، فالتقلل منه وتركه مع الإمكان، هو الذي تتفاضل فيه درجات الزهاد.
21- وجواز لبس الحرير للنساء.
22- ومن قوله في الرواية السادسة إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة إباحة الطعن لمن يستحقه.
23- ومن كسوة عمر الحلة لأخيه المشرك جواز صلة القريب الكافر، والإحسان إليه بالهدية.
24- قال ابن عبد البر: فيه جواز الهدية للكافر، ولو كان حربياً.
25- واستدل به على أن الكافر ليس مخاطباً بفروع الشريعة، لأن عمر لما منع من لبس الحلة أهداها لأخيه المشرك، ولم ينكر عليه، وتعقب بأنه لم يأمر أخاه بلبسها، فيحتمل أن يكون وقع الحكم في حقه كما وقع في حق عمر، فينتفع بها بالبيع أو كسوة النساء، ولا يلبس هو، وأجيب بأن المسلم عنده من الوازع الشرعي ما يحمله بعد العلم بالنهي عن الكف بخلاف الكافر، فإن كفره يحمله على عدم الكف عن تعاطي المحرم، فلولا أنه مباح له لبسه لما أهدي له، لما في تمكينه منه من الإعانة على المعصية، ومن ثم يحرم بيع العصير ممن جرت عادته أن يتخذه خمراً، وإن احتمل أنه قد يشربه عصيراً.
26- ومن قوله تبيعها وتصيب بها حاجتك في الرواية الثامنة، ومن قوله لتصيب بها مالاً في الرواية العاشرة، ومن قوله فباعه بألفي درهم في الرواية السابعة عشرة، جواز بيع الرجال الثياب الحرير، وتصرفهم فيها بالهبة والهدية، وإباحة ثمنه لا اللبس.
27- ومن إهداء الرسول صلى الله عليه وسلم الحلل لعمر وأسامة وعلى جواز إهداء ثياب الحرير إلى الرجال، لأنها لا تتعين للبسهم.
28- ومن الرواية الحادية عشرة بخصوص صوم رجب كله قال النووي: هذا من ابن عمر إخبار منه بأنه يصوم رجب كله، وأنه يصوم الأبد، وهذا مذهبه، ومذهب أبيه عمر بن الخطاب، وعائشة وأبي طلحة وغيرهم من سلف الأمة؛ ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يكره صوم الدهر.
29- ومن قولها فنحن نغسلها للمرضى، يستشفى بها دليل على استحباب التبرك بآثار الصالحين وثيابهم.
30- وفيه أن النهي عن الحرير المراد به الثوب المتمحض من الحرير، أو ما أكثره حرير، وأنه ليس المراد تحريم كل جزء منه، بخلاف الخمر والذهب، فإنه يحرم كل جزء منهما.
قاله النووي.
31- ومن إخراج أسماء جبة النبي صلى الله عليه وسلم بيان أن مثل هذا ليس محرماً.
قال النووي: وهكذا الحكم عند الشافعي وغيره أن الثوب والجبة والعمامة ونحوها إذا كان مكفوف الطرف بالحرير جاز، ما لم يزد على أربع أصابع، فإن زاد فهو حرام، لحديث عمر رضي الله عنه المذكور بعد هذا.
32- وجواز لبس الجبة وما له فرجان، وأنه لا كراهة فيه.
33- ومن الرواية الثالثة عشرة، وكتاب عمر، وعملهم بما فيه الاحتجاج بالمكاتبة في الرواية.
34- ومن الرواية التاسعة عشرة من إهداء أكيدر جواز قبول هدية الكافر.
والله أعلم