فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب وجوب الصلاة في الثياب "

باب
وجوب الصلاة في الثياب
وقول الله - عز وجل - { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]
ومن صلى ملتحفا في ثوب واحد
ويذكر عن سلمة بن الأكوع، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((يزره ولو بشوكة)) .
وفي إسناده نظر.

ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه إذا لم ير فيه أذى وأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يطوف بالبيت عريان.

أما قوله تعالى: { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فإنها نزلت بسبب طواف المشركين بالبيت عراة، وقد صح هذا عن ابن عباس، واجمع عليه المفسرون من السلف بعده.

وقد ذكر الله هذه الآية عقب ذكره قصة ادم عليه السلام، وما جرى له ولزوجه مع الشيطان حتى أخرجهما من الجنة، ونزع عنهما لباسهما حتى بدت عوراتهما، فقال الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27] .

ثم قال: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] .
والمراد بالفاحشة هنا: نزع ثيابهم عند الطواف بالبيت، وطوافهم عراة كما كان عادة أهل الجاهلية.

ثم قال بعد ذلك: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .

والمراد بذلك: أن يستروا عوراتهم عند المساجد، فدخل في ذلك الطواف والصلاة والاعتكاف وغير ذلك.

وقال طائفة من العلماء: أن الآية تدل على اخذ الزينة عند المساجد، وذلك قدر زائد على ستر العورة، وإن كان ستر العورة داخلا فيه وهو سبب نزول الآيات، فإن كشف العورة فاحشة من الفواحش، وسترها من الزينة، ولكنه يشمل مع ذلك لبس ما يتجمل به ويتزين به عند مناجاة الله وذكره ودعائه والطواف ببيته؛ ولهذا قَالَ تعالى عقب ذَلِكَ: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] .

وروى موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزين له)) .

خرجه الطبراني وغيره.

وقد روى جماعة هذا الحديث عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن عمر - بالشك في ذلك.

خرجه البزاز وغيره.

وخرجه أبو داود.
كذلك بالشك، ولم يذكر فيه ((فإن الله أحق من تزين له)) .

وروي ذكر التزين من قول ابن عمر، فروي عن أيوب، عن نافع، قال: رآني ابن عمر أصلي في ثوب واحد، قال: الم أكسك ثوبين؟ قلت: نعم، قال: فلو أرسلتك في حاجة كنت تذهب هكذا؟ : قلت: لا.
قال: فالله أحق أن تزين له.

أخرجه الحاكم وغيره.

والمحفوظ في هذا الحديث رواية من رواه بالشك في رفعه -: قاله الدارقطني.

وممن أمر بالصلاة في ثوبين: عمر، وابن مسعود، وقال ابن مسعود: إذ وسع الله فهو أزكى.

واستدل من قال: أن المأمور به من الزينة أكثر من ستر العورة التي يجب سترها عن الأبصار بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء، وبان من صلى عاريا خاليا لا تصح صلاته، وبان المرآة الحرة لا تصح صلاتها بدون خمار، مع أنه يباح لها وضع خمارها عند محارمها، فدل على أن الواجب في الصلاة أمر زائد على ستر العورة التي يجب سترها عن النظر.

وأما الصلاة في ثوب واحد ملتحفا به، ففيه عدة أحاديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وقد خرج البخاري بعضها، وستأتي في موضعها - أن شاء الله.
وأما حديث سلمة بن الأكوع الذي علقه البخاري، وقال: في إسناده نظر؛ فهو من رواية موسى بن إبراهيم، عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله؛ إني رجل أصيد، أفأصلي في القميص الواحد؟ قَالَ: ((نَعَمْ، زره ولو بشوكة)) .

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان فِي ((صحيحه)) ، والحاكم وصححه.

واستدل به طائفة من فقهاء أهل الحديث على كراهة الصلاة في قميص محلول الإزار، منهم: إسحاق بن راهويه، وسليمان بن داود الهاشمي، والجوزجاني وغيرهم.

وقال الإمام أحمد فيمن صلى في قميص ليس عليه غيره: يزره ويشده.
وقال - أيضا -: ينبغي أن يزره.

وقد روى هذا الحديث عن موسى بن إبراهيم: الدراوردي - ومن طريقه خرجه أبو داود - وعطاف بن خالد - ومن طريقه خرجه الإمام أحمد والنسائي.

وموسى هذا، زعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث
التيمي، وذكر ذلك عن البرقاني، وأنه نقله عن أبي داود، فلزم من ذلك أمران يضعفان إسناده: أحدهما ضعف موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي؛ فإنه متفق عليه.
والثاني: انقطاعه؛ فإن موسى هذا لم يرو عن سلمة، إنما يروي عن أبيه، عن سلمة.

وذكر أن الطحاوي رواه عن ابن أبي داود، عن ابن أبي قتيلة، عن الدراوردي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة.
قال: فحديث أبي داود علي هذا منقطع.

هذا مضمون ما ذكره ابن القطان، وزعم أن هذا هو النظر الذي أشار إليه البخاري بقوله: في إسناده نظر.

والصحيح: أن موسى هذا هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، نص على ذلك علي بن المديني -: نقله عنه القاضي إسماعيل في كتاب ((أحكام القرآن)) ، وكذا نقله المفضل الغلابي في ((تاريخه)) عن مصعب الزبيري، وكذا ذكره أبو بكر الخلال في كتاب ((العلل)) ، وصرح به - أيضا - من المتأخرين عبد الحق الإشبيلي وغيره، ولذلك خرج هذا الحديث ابن حبان في ((صحيحه)) ؛ فإنه لا يخرج فيه لموسى بن محمد بن إبراهيم التيمي شيئا؛ للاتفاق على ضعفه.

وقد فرق بين الرجلين يحيى بن معين - أيضا -، ففي ((تاريخ الغلابي)) عن يحيى بن معين: موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي يضعف، جاء بأحاديث منكرات.

ثم بعد ذلك بقليل، قال: موسى بن إبراهيم المديني، يروي عن سلمة بن
الأكوع، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة في القميص الواحد: ((زره ولو بشوكة)) - ثبت.

وفي ((تاريخ مضر بن محمد)) ، عن ابن معين نحو هذا الكلام - أيضا -، إلا أنه قال في الذي روى حديث الصلاة في القميص: ليس به بأس، ولم يقل: ثبت.

وكذلك أبو حاتم الرازي، صرح بالفرق بين الرجلين.

قال ابن أبي حاتم في ((كتابه)) : موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، روى عن سلمة بن الأكوع، وعن أبيه عن أنس، روى عنه عطاف بن خالد، وعبد الرحمان بن أبي الموالي، وعبد العزيز ابن محمد، سمعت أبي يقول ذلك، وسمعته يقول: موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي خلاف هذا، ذاك شيخ ضعيف الحديث.
انتهى.

وتضعيفه التيمي دون هذا يدل على أن هذا ليس بضعيف.

وكذا فرق بينهما علي بن ألمديني، فيما نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة في ((سؤالاته له)) ، وقال في التيمي: ضعيف، ضعيف، وقال في الذي يروي عن سلمة: كان صالحا وسطا.

وكذلك فرق بينهما ابن حبان، وذكر موسى بن إبراهيم هذا في ((ثقاته)) .

وكذلك صرح بنسبه أبو حاتم الرازي، فيما نقله عنه ابنه في كلامه على ((أوهام تاريخ البخاري)) .

وقد ورد التصريح بنسبة موسى هذا في روايات متعددة:
فروى الشافعي: أنا عطاف بن خالد والدراوردي، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن سلمة بن الاكوع، قال: قلت يا رسول الله، أنا نكون في الصيد، فيصلي احدنا في القميص الواحد؟ قال: ((نعم، وليزره، ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة)) .

وروى الإمام أحمد في ((المسند: ثنا هاشم بن القاسم: ثنا عطاف، عن موسى بن أبي ربيعة، قال: سمعت بن الاكوع - فذكر الحديث.

ورواه الاثرم في ((سننه)) : ثنا هشام بن بهرام: ثنا عطاف، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن أبي بيعة المخزومي، أن سلمة بن الاكوع كان إذا قدم المدينة نزل على ابنه إبراهيم في داره، قال: فسمعتة يقول: قلت: يا رسول الله، أني أكون في الصيد، وليس علي إلاّ قميص واحد، أفأصلي فيه؟ قال ((نعم، وزره وان لم تجد إلا شوكه)) .

وكذلك رواه علي بن المديني، عن الدراوردي: أخبرني موسى بن عبد الرحمان، أنه سمع سلمة بن الاكوع - فذكره.

ففي هذه الروايات التصريح بنسبته وبسماعه من سلمة.

وأما رواية ابن أبي قتيله، عن الدراوردي فلا يلتفت إليها؛ فإن الشافعي وعلي بن المديني وقتيبة بن سعيد وغيرهم رووه عن الدراوردي على صواب، ولم يكن ابن أبي قتيلة من أهل الحديث، بل كان يعيبهم ويطعن عليهم، وقد ذكر عند الإمام أحمد أنه قال: أهل الحديث قوم سوء! فقال أحمد: زنديق! زنديق! زنديق! .

وقد روه أبو أويس، عن موسى بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة - أيضا.

ذكره البخاري في ((تاريخه)) عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه - قال البيهقي: والأول أصح.

يعني: رواية من لم يذكر في اسنادة: ((عن أبيه)) .

وذكر البخاري في ((تاريخه)) : موسى بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة، سمع سلمة بن الأكوع، روى عنه عطاف بن خالد.

وروى عبد الرحمان بن أبي الموالي، عن موسى بن إبراهيم بن أبي ربيعة عن أبيه، عن أنس، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد ملتحفاُ فيه.

وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد، عن أبي عامر العقدي، عن ابن أبي الموالي.
فهذا هو النظر الذي أشار البخاري إلى إسناده في ((صحيحه)) ، وهو الاختلاف فِي إسناد الحَدِيْث على موسى بن إبراهيم.

وفي كونه علة مؤثرة نظر؛ فإن لفظ الحديثين مختلف جدا، فهما حديثان مختلفان إسناداً ومتنا.

نعم؛ لرواية ابن أبي الموالي، عن موسى، عن أبيه، عن أنس علة مؤثرة، وهي أن عبد الله بن عكرمة رواه عن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو: والد موسى -، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خرج حديثه الإمام أحمد.

ولعل هذة الرواية أشبه؛ فإن متن هذا الحديث معروف عن جابر بن عبد الله، لا عن أنس.

لكن نقل ابن أبي حاتم، عن أبيه في كلام جاء على ((أوهام تاريخ البخاري)) : أن رواية موسى عن أبيه عن أنس، ورواية إبراهيم والد موسى عن جابر من غير رواية ابنه موسى.

وهذا يدل على أن الإسنادين محفوظان.

وأما حديث الصلاة في القميص وزره بالشوكة، فلا يعرف إلا بهذا الإسناد عن سلمة، فلا يعلل بحديث غيره.
والله أعلم.

وأما قوله: ((من صلى في الثوب الذي يجامع فية إذا لم ير فيه أذى)) ، فهذا فيه غير حديث، لكنها ليست على شرطه: فروى يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن حديج، عن معاوية بن أبي سفيان، أنه سال أخته أم حبيبة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى.

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

وخرج الإمام أحمد من رواية ضمرة بن حبيب، أن محمد بن أبي سفيان الثقفي حدثه، أنه سمع أم حبيبة تقول: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وعلي وعليه ثوب واحد، فيه كان ما كان.

وروى الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن معاوية بن أبي سفيان، قال: دخلت على أم حبيبة ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد، فقلت: إلا أراه يصلي كما أرى؟ قالتا: نعم، وهو الثوب الذي كان فيه ما كان.

خرجه أبو يعلى الموصلي.

ويعيش ثقة، إلا أني لا أظنه أدرك معاوية.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: سال رجل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ قالَ: ((نعم، إلا أن ترى شيئا فتغسله)) .
وقال أبو حاتم الرازي والدارقطني: الصواب وقفه على جابر بن سمرة.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: هذا الحديث لا يرفع عن جابر بن سمرة.

يشير إلى أن من رفعه فقد وهم.

وخرج ابن ماجه من رواية الحسن بن يحيى ألخشني: ثنا زيد بن واقد، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدر داء، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورأسه يقطر ماء، فصلى بنا في ثوب واحد متوشحا به، قد خالف بين طرفيه، فلما انصرف قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله، تصلي بنا في ثوب واحد؟ قَالَ:
((نعم، اصلي فيه، وفيه)) - أي: قد جامعت فيه.

والخشني هذا، قال ابن معين فيه: ليس بشيء.

وأما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يطوف بالبيت عريان؛ فهو حديث صحيح، وقد خرجه البخاري في موضع أخر من حديث أبي هريرة، وسيأتي قريبا - أن شاء الله.

وهو من أحسن ما يستدل به على النهي عن الصلاة عريانا؛ لأن الطواف يشبه بالصلاة، فالمشبه به أولى.

وقد روي عن ابن عباس - مرفوعا، وموقوفا -: ((الطواف بالبيت صلاة)) .

خرج البخاري في هذا الباب حديث أم عطية:
فقال:
[ قــ :347 ... غــ :351 ]
- ثنا موسى بن إسماعيل: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد، عن أم عطية، قالت: امرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين وذوات الخدور، يشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن المصلى.
قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قَالَ: ((لتلبسها صاحبتها من جلبابها)) .

وقال عبد الله بن رجاء: ثنا عمران: ثنا محمد بن سيرين: حدثتنا أم عطية: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا.

وإنما ذكر رواية عمران عن ابن سيرين وإن لم تكن على شرطه؛ لأن فيها التصريح بسماع ابن سيرين له من أم عطية له من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن من الرواة من رواه عن ابن سيرين، عن أخته، عن أم عطية، والصحيح: رواية ابن سيرين، عن أم عطية -: قاله الدارقطني وغيره؛ فلذلك أشار البخاري إلى رواية عمران المصرحة بذلك.

و ((الجلباب)) : قال ابن مسعود ومجاهد وغيروهما: هو الرداء، ومعنى ذلك: أنه للمرآة كالرداء للرجل، يستر أعلاها، إلا أنه يقنعها فوق رأسها، كما يضع الرجل رداءه على منكبيه.

وقد فسر عبيدة السلماني قول الله - عز وجل -: { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} [الأحزاب:59] بأنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها، وهذا كان بعد نزول الحجاب، وقد كن قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب، ويرى من المرآة وجهها وكفاها، وكان ذلك ما ظهر منها من الزينة في قوله - عز وجل -: { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] .

ثم أمرت بستر وجهها وكفيها، وكان الأمر بذلك مختصا بالحرائر دون الإماء، ولهذا قال تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] ، يعني: حتى تعرف الحرة فلا يتعرض لها الفساق، فصارت المرآة الحرة لا تخرج بين الناس إلا بالجلباب، فلهذا سئل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر النساء بالخروج في العيدين، وقيل له: المرآة منا ليس لها جلباب؟ فقال: ((لتلبسها صاحبتها من جلبابها)) - يعني تعيرها جلبابا تخرج فيه.

وإذا علم هذا المعنى، ففي إدخال هذا الحديث في ((باب: اللباس في الصلاة)) نظر؟ فإن الجلباب إنما أمر به للخروج بين الناس؛ لا للصلاة، ويدل عليه: أن الأمر بالخروج دخل فيه الحيض وغيرهن، وقد تكون فاقدة الجلباب حائضا، فعلم أن الأمر بإعارة الجلباب إنما هو للخروج بين الرجال، وليس من باب اخذ الزينة للصلاة؛ فإن المرآة تصلي في بيتها بغير جلباب بغير خلاف، وإنما تؤمر بالخمار، كما روي عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار)) .

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه.
وفي إسناده اختلاف، وقد روي موقوفا على عائشة ومرسلا؛ ولذلك لم يخرجه البخاري ومسلم؛ وخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في ((صحيحيهما)) .

وفي رواية لها: ((لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار)) .

وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم، أن المراة إذا أدركت فصلت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها.

وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن على المرأة الحرة البالغ أن تخمر رأسها إذا صلت، وأنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها إعادة الصلاة.
قال: وأجمعوا أن لها أن تصلي وهي مكشوفة الوجه.

واختلفوا فيما عليها أن تغطي في الصلاة:
فقالت طائفة: عليها أن تغطي ما سوى وجهها وكفيها، وهو قول الاوزاعي، والشافعي، وأبي ثور.

وقال أحمد: إذا صلت تغطي كل شيء منها ولا يرى منها شيء، ولا ظفرها.

وقال أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام: كل شيء من المراة عورة، حتى ظفرها.
قلت: قد تقدم أن كشف وجهها في الصلاة جائز بالإجماع، والخلاف في
الكفين، وفيه عن أحمد روايتان.

وقال الحسن: إذا بلغت المحيض فصلت ولم توار أذنيها فلا صلاة لها.

وعند أبي حنيفة: لا يجب عليها ستر اليدين ولا القدمين.

وأما الوجه، فقد ذكر ابن المنذر وغيره الإجماع على جواز كشفه في الصلاة، وهذا يدل على أن اخذ المراة الجلباب في صلاة العيدين ليس هو لأجل الصلاة، بل هو للخروج بين الرجال، ولو كانت المراة حائضا لا تصلي فإنها لا تخرج بدون جلباب.