فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء

باب
الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء
وقال الحسن: يجزئه التيمم ما لم يحدث.

وأم ابن عباس وهو متيمم.

وقال يحيى بن سعيد: لا باس بالصلاة على السبخة والتيمم بها أو عليها.

ما بوب عليه البخاري من أن الصعيد الطيب وضوء المسلم: قد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن إسناده ليس على شرط البخاري، وقد خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي من حديث أبي قلابة، عن عمر ابن بجدان، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( الصعيد الطيب وضوء المسلم) ) - وفي رواية: ( ( طهور المسلم - وان لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير) ) .

وقال الترمذي: حسن صحيح.
وخرجه ابن حبان في ( ( صحيحه) ) ، والدارقطني، وصححه، والحاكم.

وتكلم فيه بعضهم؛ لاختلاف وقع في تسمية شيخ أبي قلابة؛ ولأن عمرو ابن بجدان غير معروف -: قاله الإمام أحمد وغيره.

وقد روى هذا - أيضا - من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

خرجه الطبراني والبزار.

ولكن الصحيح عن ابن سيرين مرسلا -: قاله الدارقطني وغيره.

وأما ما حكاه عن الحسن، أنه يجزئه التيمم ما لم يحدث، فهذا قول كثير من العلماء، وحكاه ابن المنذر عن ابن المسيب، والحسن، والزهري، والثوري، وأصحاب الرأي، ويزيد بن هارون.
قال: وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي جعفر.

وحكاه غير ابن المنذر - أيضا - عن عطاء، والنخعي والحسن بن صالح، والليث بن سعيد، وهو رواية عن أحمد، وقول أهل الظاهر.

واستدل لهذه المقالة بحديث: ( ( الصعيد الطيب طهور المسلم) ) ، كما أشار إليه البخاري، وأشار إليه الإمام أحمد - أيضا.

والمخالفون يقولون: المراد أنه في حكم الوضوء والطهور في استباحة ما يستباح بالطهور بالماء لا في رفع الحدث، بدليل قوله: ( ( فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك) ) ، ولو كان الحدث قد ارتفع لم يقيد بوجود الماء.

وقد طرد أبو سلمة بن عبد الرحمان قوله في أنه يرفع الحدث، فقال: يصلي به، وإن وجد الماء قبل الصلاة، ولا ينتقض تيممه إلا بحدث جديد.
وكذا قال في الجنب إذا لم تيمم ثم وجد الماء: لا غسل عليه.

وهذا شذوذ عن العلماء، ويرده قوله: ( ( فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك) ) ، ومن العجب أن أبا سلمة ممن يقول: أن من يصلي بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت أنه يعيد الصلاة، وهذا تناقض فاحش.

وذهب أكثر العلماء إلى أنه يتيمم لكل صلاة، روي ذلك عن علي وابن عمر واستدل أحمد بقولهما، وعن عمرو بن العاص، وابن عباس في رواية عنه.

وروي الحسن بن عماره، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة والحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى.

وهذا في حكم المرفوع، إلا أن الحسن بن عمارة ضعيف جداً.

وهو قول الشعبي، وقتادة، والنخعي، ومكحول، وشريك، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وحكي عن الليث - أيضا -، وهو مالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر
مذهبه، وإسحاق، وأبي ثور وغيرهم.

وقال إسحاق: هذا هو السنة.

وبناه ربيعة ويحيى بن سعيد ومالك وأحمد على وجوب طلب الماء لكل صلاة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا المسالة في ( ( كتاب: الوضوء) ) .

ثم اختلف القائلون بالتيمم لكل صلاة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجب التيمم لكل صلاة مفروضة، وسواء فعلت كل مفروضة في وقتها أو جمع بين فريضتين في وقت واحد، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق، ورواية عن أحمد.

والثاني: أنه يجب التيمم في وقت كل صلاة مفروضة، ثم يصلي بذلك التيمم ما شاء، ويقضي به فوائت، ويجمع به فرائض، ويصلي به حتى يخرج ذلك الوقت،
وهذا، وهذا هو المشهور عن أحمد، وقول أبي ثور والمزني.

والثالث: أنه يتيمم لكل صلاة فرضاً كانت أو نفلا، حكي عن شريك، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.

ومذهب مالك: لا يصلي نافلة مكتوبة بتيمم ومكتوبة بتيمم واحد إلا أن تكون نافلة بعد ومكتوبة، قال: وان صلى ركعتي الفجر بتيمم واحد أعاد التيمم لصلاة
الفجر.

وقد ذهب طائفة ممن يرى أن التيمم يصلي به ما لم يحدث إلى أنه يرفع الحدث رفعا مؤقتا بوجود الماء، وهو قول طائفة من أصحابنا والحنفية والظاهرية، ووافقهم طائفة ممن يرى أن لا يصلى فريضتان من الشافعية كابن سريج، ومن المالكية، وقالا: أنه ظاهر قول مالك في ( ( الموطإ) ) .

ولهذا قيل: أن النزاع في المسالة عند هؤلاء لفظي لا معنوي، وإنما يكون النزاع فيها معنويا مع أبي سلمة بن عبد الرحمان كما سبق حكاية قوله والله أعلم.

وأما ما حكاه عن ابن عباس أنه أم وهو متيمم، فالمراد: أنه أم المتوضئين وهو متيمم، وقد حكاه الإمام أحمد عن ابن عباس أيضا، واحتج به.

وقد خرجه سعيد بن منصور: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن أشعث بن
إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال، كان ابن عباس في نفر من أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم،: عمار بن ياسر، وكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصلى بهم ذات يوم، فاخبرهم أنه صلى بهم وهو جنب متيمم.

ورخص في ذلك سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والزهري، وحماد، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وأبو ثور، وهو رواية عن الأوزاعي.

وكره ذلك آخرون:
روى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: لا يؤم المتيمم المتوضئ.

وكرهه النخعي، والحسن بن حي، والأوزاعي في رواية، ويحيى بن سعيد، وربيعة، ومحمد بن الحسن.

وعن الأوزاعي رواية، أنه لا يؤمهم إلا أن يكون أميرا، وان كانوا متيممين فله أن يؤمهم، كذلك قال الأوزاعي وربيعة ويحيى بن سعيد.

وهذا لا احسب فيه خلافا، وكلام ابن المنذر يدل على أنه محل خلاف - أيضا - وفية نظر.

وفي المنع من إمامة المتيمم للمتوضئين حديثان مرفوعان من رواية عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، وإسنادهما لا يصح.

وفي الجواز حديث: صلاة عمرو بن العاص بأصحابه وهو جنب، فتيمم من البرد وصلى بهم وذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ذكره البخاري فيما بعد - تعليقا - وسنذكره في موضعه - أن شاء الله.
وذكر البخاري لهذه المسألة في هذا الباب قد يشعر بأن مأخذ جواز ذلك عنده أن التيمم يرفع الحدث.

وقد قال الزهري: يؤم المتيمم المتوضئين؛ لأن الله طهره.

وقال الأوزاعي - في رواية أبي إسحاق الفزاري، عنه -: يؤمهم، ما زادته.
فريضة الله ورخصته إلا طهورا.

وأكثر العلماء لم يبنوا جواز إمامته على رفع حدثه، ولهذا أجاز ذلك كثير ممن يقول: أن التيمم لا يرفع الحدث كمالك والشافعي وأحمد، لكن الإمام أحمد ذكر أن ما فعله ابن عباس يستدل به على أن طهارة التيمم كطهارة الماء يصلي بها ما لم يحدث.
ولكن يختلف مذهبه في صحة ائتمام المتوضئ والمغتسل بالتيمم؛ فإن المتيمم يصلي بطهارة شرعية قائمة مقام الطهارة بالماء في الحكم، فهو كائتمام الغاسل لرجليه بالماسح لخفيه، بخلاف من لم يجد ماء ولا ترابا فإنه لا يأتم به متوضئ ولا متيمم، ولا يأتم به إلا من هو مثله؛ لأنه لم يأت بطهارة شرعية بالكلية.

والمانعون من ائتمام المتوضئ بالمتيمم ألحقوه بائتمام القارئ بالأمي الذي لا يقرا الفاتحة إذا صلى بتسبيح وذكر، وبصلاة القائم خلف القاعد؛ فإن كلا منهما أتى ببدل، ولا يصح أن يأتي به إلا من هو مثله.

ويجاب عن ذلك: بأن الأمي مخل بركن القيام الأعظم وهو القراءة، والقرآن مقصود لذاته في الصلاة بخلاف الطهارة؛ فإنها لا تراد لذاتها بل لغيرها، وهو استباحة الصلاة بها، والتيمم يبيح الصلاة كطهارة الماء.

وأما ائتمام القائم بالقاعد فقد أجاز جماعة من العلماء، وأجاز أحمد في صورة خاصة، فإن القاعد قد أتى ببدل القيام وهو الجلوس، واتى بركن القيام الأعظم وهو القراءة.

وأما ما حكاه عن يحيى بن سعيد، أنه لا بأس بالتيمم بالسبخة والصلاة عليها:
فالأرض السبخة هي المالحة التي لا تنبت، وأكثر العلماء على جواز التيمم بها، وقد تيمم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجدار خارج المدينة، وأرض المدينة سبخة، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم.

وقال إسحاق: لا تيمم بالسباخ لأنها لا تنبت، وقد فسر ابن عباس الصعيد الطيب بأرض الحرث، والسباخ ليست كذلك.

واختلف قول الإمام أحمد فيه، فقال - في رواية -: لا يعجبني التيمم بها.
وقال - مرة -: أن لم يجد فلا بأس.
وقال - مرة -: أن تيمم منها يجزئه، وأرض الحرث أحب إلي.
وقال - مرة -: أن اضطر إليها أجزأه، وإن لم يضطر فلينظر الموضع الطيب - يعني: تراب الحرث - قال - مرة -: من الناس من يتوقى ذلك، وذلك أن السبخة تشبه الملح.

واستدل بقول ابن عباس: ( ( أطيب الصعيد أرض الحرث) ) .
ولكن هذا يدل على أن غير أرض الحرث تسمى صعيدا - أيضا -، لكن أرض الحرث أطيب منها.

قال أبو بكر الخلال: السباخ ليس هي عند أبي عبد الله كأرض الحرث، إلا أنه سهل بها إذا اضطر إليها، وإنما سهل بها إذا كان لها غبار، فأما أن كانت قحلة كالملح فلا يتيمم بها أصلا.

وأما الصلاة في السباخ، فقال أحمد - مرة -: تجزئه، وقال - مرة -: ما سمعت فيها شيئاً.

وقال حرب: قلت لأحمد: هل بلغك أن أحدا كره الصلاة في الأرض السبخة؟ قال: لا.

قال حرب: ثنا عبد الوهاب بن الضحاك: حدثني إسماعيل بن عياش، قال: سمعت أناسا من أهل العلم يكرهون الصلاة في السباخ، ورخص جماعة من أهل العلم في الصلاة في السباخ.

عبد الوهاب هذا، لا يعتمد عليه.

وخرج البخاري في هذا الباب حديث عمران بن حصين بطوله، فقال:
[ قــ :340 ... غــ :344 ]
- حدثنا مسدد بن مسرهد: ثنا يحيى بن سعيد: ثنا عوف: ثنا أبو رجاء، عن عمران بن حصين، قال: كنا في سفر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنا أسرينا، حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان - يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف -، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس – وكان رجلا جليدا – فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ لصوته النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، فقال: ( ( لا ضير – أو: لا يضير -، ارتحلوا) ) ، فارتحلوا فسار غير بعيد.

ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال: ( ( ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) ) قال: أصابتني جنابة، ولا ماء، قال: ( ( عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك) ) ، ثم سار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاشتكى الناس إليه من العطش، فنزل فدعا فلانا - كان يسميه أبو رجاء، نسيه عوف -، ودعا عليا، فقال: ( ( أذهبا فابتغيا الماء) ) فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين - أو سطيحتين - من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوفا، فقالا لها: انطلقي إذا، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحدثاه الحديث، قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين - أو السطيحتين -، وأوكأ أفواهمها، وأطلق العزالي، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: ( ( اذهب فأفرغه عليك) ) .
وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله، لقد اقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( اجمعوا لها) ) ، فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة، حتى جمعوا لها طعاما فجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها.

قال لها: ( ( تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا، ولكن الله هو الذي أسقانا) ) ، فأتت أهلها وقد احتبست عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب! لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فو الله، أنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه - وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء - والأرض -، أو أنه لرسول الله حقا، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوما لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام.
قَالَ أبو عبد الله: صبأ: خرج من دين إلى غيره.

وقال أبو العالية: الصابئون: فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور.

فوائد هذا الحديث كثيرة جدا، ونحن نشير إلى مهماتها إشارة لطيفة - أن شاء الله تعالى:
فأما قوله: ( ( كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نام لم يوقظه أحد حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه) ) ، فالمراد: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوحى إليه في نومه كما يوحى إليه في يقظته، ورؤيا الأنبياء وحي، ولهذا كانت تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فكانوا يخشون أن يقطعوا عليه الوحي إليه بإيقاظه.

ولا تنافي بين نومه حتى طلعت الشمس وبين يقظة قلبه؛ فإن عينيه تنامان، والشمس إنما تدرك بحاسة البصر لا بالقلب.

وقد يكون الله - عز وجل - أنامه حتى يسن لأمته قضاء الصلاة بعد فوات وقتها بفعله، فإن ذلك آكد من تعليمه له بالقول، وقد ورد التصريح بهذا من حديث ابن مسعود، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صلى بهم الصبح ذلك اليوم بعد طلوع الشمس وانصرف قال: ( ( أن الله - عز وجل - لو شاء أن لا تناموا عنها لم تناموا، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم) ) .
خرجه الإمام أحمد وغيره.

وهذا يشبه ما ذكره مالك في ( ( الموطإ) ) أنه بلغه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ( ( إنما أنسى لأسن) ) .
وقوله: ( ( ما أيقظنا إلاّ حر الشمس) ) ، يدل على أن الشمس كانت قد ارتفعت وزال وقت النهي عن الصلاة، لأن حرها لا يكاد يوجد ألا بعد ذلك، ففي هذا دليل على أن ارتحالهم عن ذلك المكان لم يكن للامتناع من القضاء في وقت النهي عن الصلاة، بل كان تباعدا عن المكان الذي حضرهم فيه الشيطان، كما جاء التصريح به في حديث آخر.

ولكن في صحيح مسلم في هذا الحديث - أعني: حديث عمران بن حصين، أنهم ناموا حتى بزغت الشمس وان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال: ( ( ارتحلوا) ) فسار بنا حتى إذا ابيضت الشمس نزل فصلى بنا الغداة.

كذا خرجه من رواية سلم بن زرير، عن أبي رجاء، وفي سياقه بعض مخالفة لرواية عوف، عن أبي رجاء التي خرجها البخاري، وفيه: أنه كان أول من استيقظ أبو بكر - رضي الله عنه.

وقوله: ( ( فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوضوء فتوضأ) ) يدل على أن من معه ماء وكان في مفازة فإنه يتوضأ منه، ولا يتيمم ويحبسه خشية أن يبتلى هو أو أحد من رفقته
بعطش.

ويدل على هذا: أن عمران ذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صلى بهم وسار شكى الناس إليه العطش.

وفي رواية سلم المشار إليها: قال عمران: ثم عجلني في ركب بين يديه، نطلب الماء وقد عطشنا عطشا شديدا - وذكر الحديث، وهذا محمول على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخش على نفسه عطشا، فإن من خاف على نفسه العطش ومعه ماء يسير فإنه يتيمم ويدعه لشربه.
وقد روى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا كنت مسافرا وأنت جنب أو أنت على غير وضوء فخفت أن توضأت أن تموت من العطش فلا توضأ، واحبسه لنفسك.

خرجه الأثرم.

وخرجه الدارقطني من طريق عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي، في الرجل يكون في السفر فتصيبه الجنابة ومعه الماء القليل يخاف أن يعطش، قال: يتيمم ولا
يغتسل.

قال الإمام أحمد: عدة من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحبسون الماء لشفاههم ويتيممون.
ونص على أنه لو رأى قوما عطاشا ومعه إداوة من ماء، أنه يسقيهم الماء ويتيمم.

واختلف أصحابنا: هل ذلك على الوجوب أو الاستحباب؟ على وجهين، أصحهما: أنه للوجوب، وهو قول الشافعية.

فهذا الحديث محمول على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخف على نفسه عطشا، ولم يجد قوما عطاشا في الحال، فلذلك توضأ بالماء ولم يتيمم.
ويدل على أنه لا يحبس الماء لخوف عطش يحدث لرفقته.

ولم ينص أحمد على حبس الماء خشية عطش يحدث لرفقته، وإنما قال أصحابه متابعة لأصحاب الشافعي، وقالوا: هل حبس الماء لعطش غيره المتوقع واجب أو مستحب؟ فيه وجهان، قالوا: وظاهر كلام أحمد أنه مستحب غير واجب؟ لان حاجة الغير هنا متوقعة وحاجته للطهارة حاضرة، وقد ترجحت بكونه مالكا، ولهذا قدمنا نفقة الخادم على نفقة الوالدين، وان كانت حاجتهما إلى النفقة اشد من حاجة نفسه إلى الخدمة، تقديما لنفسه على غيره.

قلت: وحديث عمران يدل على أنه لا يستحب - أيضا - بل يقدم الوضوء على عطش الرفيق المتوقع، فإنه لو كان ذلك أفضل من الوضوء لحبس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الماء وتيمم، فإنه كان معه خلق من أصحابه، وكان الماء معهم قليلا جدا ولهذا شكوا إليه العطش عقيب ذلك عند اشتداد حر الشمس وارتفاع النهار، وكان الماء منهم بعيدا.

وقد أشار إلى هذا المعنى الذي ذكرناه أبو المعالي الجويني من الشافعية، وخالف أصحابه فيما ذكروه من حبس الماء لعطش رفقته المتوقع، وهذا هو الذي دلت عليه هذه السنة الصحيحة، والله أعلم.

وفي الحديث: دليل على أن الفوائت يؤذن لها وتصلى جماعة.

وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي لم يصل مع القوم: ( ( ما منعك أن تصلي مع القوم؟) ) قَالَ: أصابتني جنابة ولا ماء.
قَالَ: ( ( عليك بالصعيد، فإنه يكفيك) ) فيه دليل على التيمم للجنابة كالتيمم للحدث الأصغر، ودليل على أن عادم الماء يكفيه الصعيد من الماء.

ولهذه الكلمة خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب، وجعله دليلا له على إقامة التيمم مقام الطهارة بالماء عند عدم الماء، فيؤخذ من هذا أنه يصلي به كما يصلي بالماء، كما هو اختيار البخاري ومن قال بقوله من العلماء.

وفية دليل على أنه لا يجب طلب الماء إذا غلب على الظن عدمه أو قطع بذلك، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بالتيمم، ولم يأمره بطلب، ولا بسؤال رفقته.

وقد ذهب ابن حامد من أصحابنا إلى أنه لا يلزمه سؤال رفقته، وان قلنا: يلزمه الطلب، وأنه إنما يلزمه طلبه في رحله ما قرب منه إذا احتمل وجود الماء، والمنصوص عن أحمد: أن عليه أن يطلبه في رفقته.

وفي رواية مسلم المشار إليها فيما تقدم: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل: ( ( يا فلان ما منعك أن تصلي معنا؟) ) قال: يا نبي الله، أصابتني جنابة.
فأمره رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتيمم بالصعيد، فصلى.

وفي الحديث - أيضا - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاءه الماء أعطاه ماء وأمره أن يغتسل به، وهذا مثل قوله في حديث أبي ذر: ( ( فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك) ) ، وفيه رد على أبي سلمة في قوله: أنه لا غسل عليه، كما سبق.

وقول تلك المرآة: ( ( ونفرنا خلوف) ) .

قال الخطابي: النفر الرجال، والخلوف الذين خرجوا للاستقاء، وخلفوا النساء والأثقال، يقال: أخلف الرجل واستخلف إذا استقى الماء.

قال: ويقال لكل من خرج من دين إلى دين آخر: صابئ - بالهمز، وأما: صبا يصبو بلا همز فمعناه: مال.

قال: والعزالي جمع عزلاء، وهي عروة المزادة، يخرج منها الماء بسعة.

وقال غيره: العزلاء: فم المزادة الأسفل، وتجمع على عزالى وعزالي - بكسر اللام وفتحها - كالصحاري والعذاري.

قال: والصرم: النفر النازلون على ماء، وتجمع على أصرام، فأما الصرمة - بالهاء - فالقطعة من الإبل نحو الثلاثين عددا.

قال: وقوله: ( ( ما رزئناك) ) ، أي: ما نقصناك، ولا أخذنا منك شيئا.

قلت: وفي الحديث معجزة عظيمة، وعلم من أعلام نبوة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتكثير الماء القليل ببركته، وإرواء العطاش منه، واستعمالهم وأخذهم منه في قربهم، من غير أن ينقص الماء المأخوذ منه شيئا، ولذلك قال المرآة: ( ( ما رزئناك من مائك شيئا، وإنما سقانا الله - عز وجل -) ) .

وفي رواية مسلم المشار إليها في هذا الحديث: ( ( فأمر براويتها فأنيخت، فمج في العزلاوين العلياوين، ثم بعث براويتها فشربنا، ونحن أربعون رجلا عطاش حتى روينا، وملأنا كل قربة معنا وإداوة، وغسلنا صاحبنا، غير أنا لم نسق بعيرا وهي تكاد تنضرج من الماء) ) - يعني: المزادتين - وذكر بقية الحديث.

وإنما لم يستأذن المرآة أولا في الشرب من مائها والأخذ منه، لأن انتفاعهم إنما كان بالماء الذي أمده الله بالبركة، لم يكن من نفس مائها، ولذلك قال: ( ( ما رزئناك من مائك شيئا، وإنما سقانا الله) ) .

ونظير هذا: أن جابرا صنع للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاما يسيرا في عام الخندق، وجاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فساره بذلك، وقال له: تعال أنت في نفر معك، فصاح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( يا أهل
الخندق، أن جابرا قد صنع لكم سورا، فحيهلا بكم)
)
، ثم جاء بهم جميعا، فأكلوا حتى شبعوا، والطعام بحاله.

فإن أكل أهل الخندق إنما كان مما حصلت فيه البركة بسبب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الداعي لأهل الخندق كلهم إلى الطعام في الحقيقة، فلذلك لم يحتج في استئذان جابر في ذلك.

وهذا بخلاف ما جرى لأبي شعيب اللحام لما دعاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجلساءه، فلما قاموا تبعهم رجل لم يكن معهم حين دعوا، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصاحب المنزل: ( ( أنه اتبعنا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا، فإن أذنت له دخل) ) فأذن له فدخل.

وقد خرجاه في ( ( الصحيحين) ) بمعناه من حديث أبي مسعود، فإن ذلك اليوم لم يحصل فيه ما حصل في طعام جابر وماء المرآة المشركة – والله - سبحانه وتعالى - أعلم -، فإن غالب ما كان يقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكثير الطعام والشراب في أوقات الحاجة العامة إليه.

وفي حديث عمران - أيضا - دليل على جواز استعمال ماء المشركين الذين في قربهم ونحوها من أوعية الماء المعدة له، وقد سبق الكلام على ذلك في ( ( كتاب
الوضوء)
)
.