فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة

باب
ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة

وفيه حديثان:
الأول:
[ قــ :1156 ... غــ :1199 ]
- ثنا ابن نمير: ثنا ابن فضيل: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قالَ: كنا نسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: ( ( إن في الصلاة لشغلاً) ) .

حدثنا ابن نمير: ثنا إسحاق بن منصور السلولي: ثنا هريم بن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.

وخرجه - أيضا - في مواضع أخر، من رواية أبي عوانة عن الأعمش - نحوه.

ورواه أيضا - أبو بدر شجاع بن الوليد، عن الأعمش - بهذا الإسناد.
وإنما احتيج إلى ذكر هذه المتابعات عن الأعمش؛ لأن الثوري وشعبة وزائدة وجريراً وأبا معاوية وحفص بن غياث رووه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، لم يذكروا فيهِ: ( ( علقمة) ) ، فيصير منقطعاً.

وقد رجح انقطاعه كثير من الحفاظ، [منهم] : أبو حاتم الرازي.

وقال في رواية ابن فضيل الموصولة: أنها خطأ.

وقال الحافظ أبو الفضل بن عمار الشهيد: الذين أرسلوه أثبت ممن وصله.

قال: ورواه الحكم بن عتبة - أيضا -، عن إبراهيم، عن عبد الله مرسلا - أيضا - إلاّ ما رواه أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن الحكم موصولاً؛ فإنه وهم فيهِ أبو خالد.
انتهى.
وتصرف البخاري يدل على خلاف ذلك، وأن وصله صحيح.

وكذلك مسلم في ( ( صحيحه) ) ؛ فإنه خرجه من طريق ابن فضيل وهريم بن سفيان – موصولا – كما خرجه البخاري 0
وله عن ابن مسعود طريق اخرى متعددة، ذكرتها مستوفاة في ( ( شرح
الترمذي)
)
.

وقال البخاري في أواخر ( ( صحيحه) ) :
وقال ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة) ) .

وهذا الحديث المشار إليه، خرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن عيينة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كنا نسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيرد علينا السلام، حتى قدمنا من أرض الحبشة، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فأخذني ما قرب وما بعد، فجلست حتى إذا قضى الصلاة قال: ( ( إن الله يحدث) ) – فذكره.

ورواه الحميدي وغيره من أصحاب سفيان، عنه، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود.

وزعم الطبراني: أنه المحفوظ.
قلت: عاصم، هو: ابن أبي النجود، كان يضطرب في حديث زر وأبي وائل، فروى الحديث تارة عن زر، وتارة عن أبي وائل.

قال الطبراني: ورواه عبد الغفار بن داود الحراني، عن ابن عيينه، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله.

قال: فإن كان حفظه، فهو غريب.

قلت: ليس هو بمحفوظ، إنما المحفوظ رواية: سفيان، عن عاصم –كما تقدم.

وخرج النسائي – أيضا - من طريق سفيان، عن الزبير بن عدي، عن كلثوم، عن ابن مسعود، قال: كنت آتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فأسلم عليه، فيرد عليَّ، فأتيته، فسلمت عليه وهو يصلي، فلم يرد عليَّ، فلما سلم أشار إلى القوم، فقال: ( ( إن الله
عز وجل - يعني - أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلاّ بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين)
)
.

وكلثوم، هو: ابن المصطلق الخزاعي، يقال: له صحبة، وذكره ابن حبان في ( ( كتابه) ) من التابعين.

وقوله: ( ( إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة) ) إشارة إلى أنه شرع ذلك بعد أن لم يكن شرعه، ومنعه بعد أن لم يكن قد منعه 0



[ قــ :1157 ... غــ :100 ]
- ثنا إبراهيم بن موسى: ثنا عيسى –هو: ابن يونس -: ثنا إسماعيل –هو: ابن أبي خالد -، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، قال: قال لي زيد بن أرقم: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكلم أحدنا صاحبه
بحاجته، حتى نزلت: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 38] فأمرنا بالسكوت.

وخرجه مسلم، وزاد فيه: ( ( ونهينا عن الكلام) ) ، وليس عنده: ذكر عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه النسائي، وعنده: ( ( فأمرنا حينئذ بالسكوت) ) .

وخرجه الترمذي، ولفظه: كنا نتكلم خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، فيكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه، حتى نزلت { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 38] .
قال: فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.

وهذه الرواية صريحة برفع آخره.

واختلف الناس في تحريم الكلام في الصَّلاة: هلا كان بمكة، او بالمدينة؟ فقالت طائفة: كانَ بمكة.

واستدلوا بحديث ابن مسعود المتقدم، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امتنع من الكلام عند قدومهم عليه من الحبشة، وإنما قدم ابن مسعود عليه من الحبشة إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، كذا ذكره ابن إسحاق وغيره.

ويعضد هذا: أنه روي: أن امتناعهم من الكلام كان بنزول قوله: { وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:04] وهذه الآية مكية.

فروى أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال: قال ابن مسعود:
كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فجاء القرآن { وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

وأخرجه ابن جرير وغيره.

وهذا الإسناد منقطع؛ فإن المسيب لم يلق ابن مسعود.

وروى الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة، قالَ: كانوا يتكلمون في الصَّلاة، فلما نزلت هذه الآية { وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ} والآية الأخرى، قالَ: فأمرنا بالإنصات.

وخرجه بقي بن مخلد في ( ( مسنده) ) .

وخرجه غيره، وعنده: ( ( أو الآية الأخرى) ) – بالشك.

والهجري، ليس بالقوي.

ولكن يشكل على أهل هذه المقالة حديث زيد بن أرقم، الذي خرجه البخاري هاهنا؛ فإن زيداً الأنصاري، لم يصل خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة، إنما صلى خلفه بالمدينة، وقد أخبر أنهم كانوا يتكلمون حتَّى نزلت: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقر: 38] .

وهي مدنية بالاتفاق.

وأجاب أبو حاتم ابن حبان – وهو ممن يقول: إن تحريم كلام كان بمكة -: واجيب عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن زيد بن أرقم حكى حال الأنصار وصلاتهم بالمدينة قبل هجرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، وأنهم كانوا يتكلمون حينئذ في الصلاة؛ فإن الكلام حينئذ كانَ مباحاً، وكان النَّبيّ إذ ذاك بمكة، فحكى زيد صلاتهم تلك الأيام، لا أن نسخ الكلام كانَ بالمدينة.

قلت: هذا ضعيف؛ لوجهين:
أحدهما: أن في رواية الترمذي: ( ( كنا نتكلم خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصَّلاة) ) ، فدل على أنه حكى حالهم في صلاتهم خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هجرته إلى المدينة.
أنه ذكر أنهم لم ينهوا عن الكلام حتى نزلت الاية، وهي إنما نزلت بعد الهجرة بالاتفاق، فعلم أن كلامهم استمر في الصلاة بالمدينة، حتى نزلت هذه الآية 0
ثم قال ابن حبان:
والجواب الثاني: أن زيدا حكى حال الصحابة مطلقا، من المهاجرين وغيرهم، ممن كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل تحريم ( ( الكلام) ) في الصلاة، ولم يرد الأنصار، ولا أهل المدينة بخصوصهم، كما يقول القائل: فعلنا كذا، وإنما فعله بعضهم.

قلت: وهذا يرده قوله: ( ( حتى نزلت الآية) ) ؛ فإنه يصرح بأن كلامهم استمر إلى حين نزولها، وهي إنما نزلت بالمدينة.

وأجاب غير ابن حبان بجوابين آخرين:
أحدهما: أنه يحتمل أنه كان نهي عن الكلام متقدما، ثم أذن فيه، ثم نهي عنه لما نزلت الآية.
أنه يحتمل أن يكون زيد بن أرقم ومن كان يتكلم في الصلاة لم يبلغهم نهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما نزلت الآية انتهوا.

وكلا الجوابين فيه بعد، وإنما انتهوا عند نزول الآية، بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسكوت، ونهيه عن الكلام، كما تقدم.

وقال طائفة أخرى: إنما حرم الكلام في الصلاة بالمدينة؛ لظاهر حديث زيد بن أرقم، ومنعوا أن يكون ابن مسعود رجع من الحبشة إلى مكة، وقالوا: إنما رجع من الحبشة إلى المدينة، قبيل بدر.

واستدلوا بما خرجه أبو داود الطيالسي في ( ( مسنده) ) من حديث عبد الله بن
عتبة، عن ابن مسعود، قال: بعثنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى النجاشي، ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر بن أبي طالب – فذكر الحديث في دخولهم على النجاشي، وفي آخره -: فجاء ابن مسعود، فبادر، فشهد بدرا.

وروى آدم ابن أبي إياس في ( ( تفسيره) ) : حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، قال: قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، والناس يتكلمون بحوائجهم في الصلاة، كما يتكلم أهل الكتاب، فأنزل الله { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:38] ، فسكت القوم عن الكلام.

وهذا مرسل.
وأبو معشر، هو: نجيح السندي، يتكلمون فيه.

وقد اتفق العلماء على أن الصلاة تبطل بكلام الآدميين فيها عمدا لغير مصلحة الصلاة، واختلفوا في كلام الناسي والجاهل والعامد لمصلحة الصلاة.

فأماكلام الجاهل، فيأتي ذكره – قريبا.

وأما كلام الناسي والعامد لمصلحة، فيأتي ذكره في ( ( أبواب سجود السهو) ) قريبا – إن شاء الله تعالى.