فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب القنوت قبل الركوع وبعده

باب
القنوت قبل الركوع وبعده
لم يبوب البخاري على القنوت إلا في عقب أبواب الوتر، وهذا يدل على أنه يرى القنوت في الوتر، إما دون غيره من الصلوات أو مع غيره منها.

وخرج فيه حديث أنس بن مالك من طرق أربعة.

الطريق الأول:
[ قــ :970 ... غــ :1001 ]
- ثنا مسدد: نا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، قال: سئل أنس بن مالك: أقنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصبح؟ قالَ: نعم.
فقيل: أو قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً.

هذا الحديث –بهذا اللفظ -: يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح، وأنه قنت بعد الركوع، وأنه قنت يسيراً.

وقوله: ( ( يسيراً) ) يحتمل أن يعود إلى القنوت، فيكون المراد: قنت قنوتاً يسيراً، ويحمتل أنه يعود إلى زمانه، فيكون المعنى: قنوته زماناً يسيراً، فيدل على أنه لم يدم
عليه، بل ولا كان غالب أمره، وإنما كان مدة يسيرة فقط.
ويدل عليه: ما روى علي بن عاصم: أخبرني خالد وهشام، عن محمد بن سيرين: حدثني أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرا في الغداة، بعد الركوع، يدعو.

وقد خرجه أبو داود، وعنده: بدل ( ( يسيراً) ) : ( ( يسراً) ) أو ( ( يسر) ) .

وهذه الرواية إن كانت محفوظة فإنما تدل على أنه اسر بالقنوت، ولم يجهر به.


الطريق الثاني:
[ قــ :971 ... غــ :100 ]
- ثنا مسدد: ثنا عبد الواحد: ثنا عاصم، قال: سألت أنس بن مالك، عن القنوت؟ فقالَ: قد كانَ القنوت.
قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله.
قلت: فإن فلانا أخبرني عنك، أنك قلت: بعد الركوع؟ فقال: كذب، إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الركوع شهرا، أراه كان بعث قوما، يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد، فقنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا يدعو عليهم.

وخرّجه – أيضا – في ( ( المغازي) ) عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد،
[عن] عاصم، بأتم من هذا.

وخرّجه في أواخر ( ( الجهاد) ) من طريق ثابت بن يزيد، عن عاصم: سألت أنساً عن القنوت، [قال] : قبل الركوع، فقلت: إن فلانا يزعم أنك قلت: بعد الركوع؟ قالَ: كذب، ثُمَّ حدث عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قنت شهراً بعد الركوع –فذكره.

وخرّجه في ( ( الأحكام) ) من طريق عباد بن عباد، عن عاصم.
وفي ( ( الدعاء) ) من طريق أبي الأحوص، عن عاصم –مختصراً، في القنوت شهراً، ولم يذكر فيه
:
( ( قبل) ) .

وخرجه مسلم من رواية أبي معاوية، عن عاصم، عن أنس، قال: سألته عن القنوت قبل الركوع، أو بعد الركوع؟ فقالَ: قبل الركوع.
قلت: فإن ناسا يزعمون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت بعد الركوع؟ فقال: إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا، يدعو على أناس قتلوا أناسا من أصحابه، يقال لهم: القراء.

وخرجه من طرق أخرى، عن عاصم، عن أنس –في قنوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا
فقط.

وليس في شيء من هذه الروايات: مدوامة القنوت، كما في رواية عبد الواحد بن زياد التي خرجها البخاري، مع أنه لا دلالة فيها على ذلك –على تقدير أن تكون محفوظة –؛ فإنه ليس فيها تصريح بأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هوَ الذي كانَ يقنت قبل الركوع، فيحتمل أن يريد أن مدة قنوت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت شهرا بعد الركوع، وكان غيره من الخلفاء يقنت قبل الركوع، ولعله يريد قنوت عمر، لما كانَ يبعث الجيوش إلى بلاد الكفار، فكان يقنت ويستغفر لهم.

ولكن روى الطبراني، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن أبي جعفر الرازي، عن عاصم، عن أنس، قال: قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصبح يدعو على احياء من احياء العرب، وكان قنوته –قبل الركوع.

ولكن هذه الرواية شاذه منكرة، لا يعرج عليها.

وأبو جعفر الرازي، اسمه: عيسى بن ماهان، قد وثقه يحيى وغيره؛ فإنه من أهل الصدق ولا يتعمد الكذب، ولكنه سيئ الحفظ؛ فلذلك نسبه ابن معين إلى الخطإ والغلط مع توثيقه له.

وقال ابن المديني: هو يخلط مثل موسى بن عبيدة.
وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي في الحديث.
وقال أبو زرعة: يهم كثيراً.
وقال الفلاس: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق سيئ الحفظ.
وقال ابن خراش: سيئ الحفظ صدوق.
وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.

وقد روى أبو جعفر هذا، عن الربيع بن أنس، عن أنس، قال: ما زال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت حتى فارق الدنيا.

خرجه الإمام أحمد وغيره.
وهذا - أيضا - منكر.

قال أبو بكر الأثرم: هو حديث ضعيف، مخالف للأحاديث.

يشير إلى أن ما ينفرد به أبو جعفر الرازي لا يحتج به، ولا سيما إذا خالف
الثقات.

وقد تابعه عليه: عمرو بن عبيد الكذاب المبتدع، فرواه عن الحسن، عن أنس - بنحوه.

وتابعه - أيضا -: إسماعيل بن مسلم المكي، وهو مجمع على ضعفه، فرواه عن الحسن، عن أنس.

وقد خرج حديثه البزار، وبين ضعفه.

وروي –أيضا - ذلك عن أنس من وجوه كثيرة، لا يثبت منها شيء، وبعضها موضوعة.

وروى خليد بن دعلج، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في صلاة الفجر بعد الركوع، وأبو بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته، ثم طلب إليه المهاجرون والأنصار تقديم القنوت قبل الركوع.

خليد بن دعلج، ضعيف، ولا يعتمد.

وقد روى مصعب بن المقدام، عن عاصم الأحول، عن أنس، قال: قنت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً قبل الركوع.

وروى الحسن بن الربيع، عن أبي الأحوص، عن عاصم، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرا في صلاة الفجر، يدعو على خيبر.
قال عاصم: سألت أنساً عن القنوت؟ قالَ: هوَ قبل الركوع.

وهاتان الروايتان: تدل على أن القنوت قبل الركوع كانَ شهرا، بخلاف رواية عبد الواحد، عن عاصم.

وروى قيس بن الربيع، عن عاصم، قال: قلنا لأنس: إن قوماً يزعمون أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يقنت بالفجر؟ قالَ: كذبوا؛ إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا واحداً، يدعو على حي من أحياء المشركين.

فهذه تعارض رواية أبي جعفر الرازي، عن عاصم، وتصرح بأن مدة القنوت كلها تزد على شهر.

وليس قيس بن الربيع بدون أبي جعفر الرازي، وإن كان قد تكلم فيه؛ لسوء حفظه –أيضا - فقد أثنى عليهِ أكابر، مثل: سفيان الثوري وابن عيينة وشريك وشعبة وأبي حصين.

وأنكر شعبة على القطان كلامه فيه، وأنكر ابن المبارك على وكيع كلامه فيه.

وقال محمد الطنافسي: لم يكن قيس عندنا بدون سفيان، إلا أنه استعمل، فأقام على رجل حداً، فمات، فطفئ أمره.

وقال يعقوب بن شيبة: هو عند جميع أصحابنا صدوق وكتابه صالح، إنما حفظه فيه شيء.

وقال ابن عدي: رواياته مستقيمة، وقد حدث عنه شعبة وغيره من الكبار، والقول فيه ما قال شعبة: أنه لا بأس به.
وقد توبع قيس على روايته هذه:
فروى أبو حفص ابن شاهين: ثنا أحمد بن محمد بن سعيد –هو: ابن عقده الحافظ -: ثنا الحسن بن علي بن عفان: ثنا عبد الحميد الحماني، عن سفيان، عن عاصم، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقنت إلا شهراً واحداً حتى مات.

وابن عقده، حافظ كبير، إنما أنكر عليه التدليس، وقد صرح في هذا
بالتحديث.

وعبد الحميد الحماني، وثقه ابن معين وغيره، وخرج له البخاري.

وخرج البيهقي من حديث قبيصة، عن سفيان، عن عاصم، عن أنس، قال: إنما قنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً.
فقلت: كيف القنوت؟ قالَ: بعد الركوع.

وهذه تخالف رواية من روى عنه القنوت قبل الركوع.

وأما القنوت شهرا، فقد سبق أن البخاري خرجه من رواية عباد بن عباد.

وخرجه مسلم من رواية ابن عيينة، وغير واحد، كلهم عن عاصم.

وهو المحفوظ عن سائر أصحاب أنس.

فتبين بهذا: أن رواية عاصم الأحول عن أنس –في محل القنوت، والإشعار بدوامه - مضطربة متناقضة.

وعاصم نفسه، قد تكلم فيه القطان، وكان يستضعفه، ولا يحدث عنه.

وقال: لم يكن بالحافظ.

وقد حدث عاصم، عن حميد بحديث، فسئل حميد عنه، فأنكره ولم يعرفه.

وحينئذ؛ فلا يقضى برواية عاصم، عن أنس، مع اضطرابها على روايات بقية أصحاب أنس، بل الأمر بالعكس.

وقد أنكر الأئمة على عاصم روايته عن أنس القنوت قبل الركوع:
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله –يعني: أحمد بن حنبل -: يقول أحمد في حديث أنس: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول؟ قالَ: ما علمت أحدا يقوله غيره: قالَ أبو عبد الله: خالفهم عاصم كلهم.

يعني: خالف أصحاب أنس.

ثم قال: هشام، عن قتادة، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت [بعد] الركوع.
والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس.
وأيوب، عن محمد: سألت أنساً.
- وحنظلة السدوسي، عن أنس -: أربعة أوجه.

وقال أبو بكر الخطيب في ( ( كتاب القنوت) ) : أما حديث عاصم الأحول، عن أنس، فإنه تفرد بروايته، وخالف الكافة من أصحاب أنس، فرووا عنه القنوت بعد الركوع، والحكم للجماعة على الواحد.

كذا قاله الخطيب في القنوت قبل الركوع، فأما في دوام القنوت، فإنه جعله أصلا اعتمد عليه، ويقال له فيه كما قال هو في محل القنوت، فيقال: إن أصحاب أنس إنما رووا عنه إطلاق القنوت أو تقييده بشهر، ولم يرو عن أنس دوام القنوت من يوثق بحفظه.

وأما القنوت قبل الركوع، فقد رواه عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، كما خرج البخاري عنه من طريقه في ( ( السير) ) ، وسنذكره – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقد حمل بعض العلماء المتأخرين حديث عاصم، عن أنس في القنوت قبل الركوع على أن المراد به: إطالة القيام، كما في الحديث: ( ( أفضل الصلاة طول
القنوت)
)
.

والمراد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطيل القيام قبل الركوع للقراءة، وإنما أطال القيام بعد الركوع شهرا حيث دعا على من قتل القراء، ثم تركه.

وقد صح عن ابن عمر مثل ذلك.

وروى ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يقنت في الفجر، ولا في الوتر، وكان إذا سئل عن القنوت، قال: ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن.

ورواه يحيى بن سعيد، عن عبيد الله – أيضا.


الطريق الثالث:
[ قــ :97 ... غــ :1003 ]
- ثنا أحمد بن يونس، ثنا زائدة، عن التيمي، عن ابن مجلز، عن أنس بن مالك، قال: قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا، يدعو على رعل وذكوان.

وخرجه في ( ( المغازي) ) من رواية ابن المبارك، عن سليمان التيمي، وزاد فيه: ( ( بعد الركوع) ) .

وزاد –أيضا - فيه: ( ( ويقول: عصية عصت الله ورسوله) ) .

وكذلك خرجه مسلم من رواية المعتمر بن سلمان التيمي، عن أبيه، وزاد فيه: ( ( في صلاة الصبح) ) .


الطريق الرابع:
[ قــ :973 ... غــ :1004 ]
- ثنا مسدد: ثنا إسماعيل: أنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: كان القنوت في المغرب والفجر.

وخرجه – فيما تقدم - في ( ( باب: فضل اللهم ربنا ولك الحمد) ) ، عن عبد الله بن أبي الأسود، عن إسماعيل –وهو: ابن علية -، به - أيضا.

وليس في هذا الحديث أن ذلك كان من فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في عهده، فيحتمل أنه اخبر عما كان في زمن بعض خلفائه، والله أعلم.

وقد روي حديث القنوت عن أنس من طرق أخرى، وقد خرجه البخاري في ( ( السير) ) و ( ( المغازي) ) من بعضها.
طريق آخر:
قال البخاري: ثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا عبد العزيز، عن أنس، قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم: رعل وذكوان، فقتلوهم، فدعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً عليهم في صلاة الغداة، وذلك بدء
القنوت، وما كنا نقنت.

قال: وسأل رجل أنساً عن القنوت: بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة؟ قالَ: بل عندَ فراغ من القراءة.

ولكن؛ ليس في هذه الرواية تصريح بأن قنوت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ قبل الركوع، إنما هوَ من فتيا أنس.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد تقدم عنه ما يخالف ذلك، وما يوافقه، فالروايات عن أنس في محل القنوت مختلفة.

وفي هذه الرواية التصريح بأن هذا كان بدأ القنوت، وأنهم لم يقنتوا قبله، والتصريح بأن القنوت كان شهرا، ولا شك أن هذا القنوت ترك بعد ذلك ولم يقل أنس: إنه استمر القنوت بعد الشهر.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

طريق آخر:
قال البخاري: ثنا يحيى بن بكير: ثنا مالك، عن إسحاق [بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: دعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على لادين قتلوا أصحابه ببئر ثلاثين صباحاً حين يدعوا على رعل ولحيان، وعصية عصت الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قال أنس: فأنزل الله تعالى لنبيه في الذين قتلوا - أصحاب بئر معونة -
قراناً، حتى نسخ بعد: بلغوا قومنا، فقد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه]