فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الدهن للجمعة

باب
الدهن للجمعة
فيه عن سلمان، وأبي هريرة:
أما حديث سلمان:
فقال:

[ قــ :857 ... غــ :883 ]
- ثنا آدم: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: أخبرني أبي، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه – أو يمس من طيب بيته -، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ماكتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .

هذا الحديث تفرد بتخريجه البخاري دون مسلمٍ؛ لاختلاف وقع في إسناده.

وقد خرَّجه البخاري هاهنا عن آدم بن أبي إياسٍ، عن ابن أبي ذئبٍ.
ثم خرَّجه بعد ذلك من طريق
ابن المبارك، عن ابن أبي ذئب بهذا إلاسناد –أيضاً وكذا رواه جماعةً عن ابن أبي ذئب.

ورواه بعضهم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبري، عن ابن وديعة، عن سلمان – لم يذكر في إسناده: ((أبا سعيدٍ المقبري)) .

ورواه الضحاك بن عثمان، عن المقبري بهذا إلاسناد –أيضاً - مع إلاختلاف عليه في ذكر ((أبي سعيدٍ)) وإسقاطه.

وزاد الضحاك في حديثه: قال سعيدٌ المقبري: فحدثت بذلك عمارة بن عمرو بن حزمٍ، فقال: أوهم ابن وديعة؛ سمعته من سلمان يقول: ((وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .

ورواه ابن عجلان، عن سعيدٍ بن أبي سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن وديعة، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.

قال ابن عجلان: فذكرته لعبادة بن عامر بن عمرو بن حزمٍ، فقال: صدق،
((وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .

خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، ولم يذكر آخره.

وقد روى ابن أبي حاتم - مرةً -، عن أبي زرعة، أنه قال: حديث ابن عجلان أشبه.

يعني: قوله: ((عن أبي ذر)) .

ونقل –مرةً أخرى -، عن أبيه وأبي زرعة، أنهما قالا: حديث سلمان الأصح.

وكذا قال علي بن المديني والدارقطني، وهو الذي يقتضيه تصرف البخاري.

وكذا قال ابن معينٍ: ابن أبي ذئبٍ أثبتُ في المقبري من ابن عجلان.
وعبيد الله بن وديعه – ويقال: عبد الله -، قال أبو حاتمٍ الرازي: الصحيح
عبيد الله.

وقال أبو زرعة: الصحيح عبد الله.

وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئبٍ، فسماه: عبيد الله بن عدي بن الخيار، وهو وهم منه -: قاله أبو حاتمٍ.

وقد رواه جماعةً، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم: ابن جريجٍ وعبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله وغيرهم.
وزاد ابن جريجٍ: وعن عمارة بن عامرٍ الأنصاري.

قال الدارقطني: ووهم في ذلك؛ إنما أراد عمارة بن عمرو بن حزمٍ، كما ذكر الضحاك.

ورواه صالحٌ بن كيسان، عن سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قال أبو زرعة وأبو حاتم: هو خطأ؛ إنما هوَ ما قاله ابن أبي ذئبٍ وابن عجلان.

ولا ريب أن الذي قالوا فيهِ: ((عن أبي هريرة)) جماعةٌ حفاظٌ، لكن الوهم يسبق كثيراً إلى هذا إلاسناد؛ فإن رواية ((سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة - أو عن أبيه، عن أبي هريرة)) سلسلةٌ معروفةُ، تسبق إليها الالسن، بخلاف رواية ((سعيدٍ)) عن
أبيه، عن ابن وديعة، عن سلمان)) ؛ فانها سلسلةٌ غريبةٌ، لا يقولها إلا حافظ لها متقنٌ.

ورجح ابن المديني قول من رواه عن سلمان، [بأن حديثه ... ] ، فإنه قدر رواه النخعي، عن علقمة، عن القرثع، عن سلمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فقوله: ((لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة)) يؤخذ منه اختصاص الغسل بالرجال، كما هو قول أحمد، ويأتي ذكره فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

وقوله: ((ويتطهر ما استطاع من طهر)) ، الظاهر: أنه أراد به المبالغة في
التنظف، وإزالة الوسخ، وربما دخل فيه تقليم الأظفار، وإزالة الشعر من قص الشعر وحلق العانة ونتف إلابط؛ فإن ذَلِكَ كله طهارة.

ويدل عليهِ: ما خرَّجه البزار من حديث أبي الدرداء، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ:
((الطهارات أربعٌ: قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والسواك)) .

وفي إسناده: معاوية بن يحيى، قال البزار: ليس بالقوي، وقد حدث عنه أهل العلم، واحتملوا حديثه.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن عمروٍ بن العاص، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة)) .
فقال رجلٌ: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، أفأضحي بها؟ قالَ:
((لا، ولكن تأخذ من شعرك، وتقلم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك من تمام أضحيتك عند الله عز وجل)) .

وهذا يشعر باستحباب هذه الطهارات في الأعياد كلها، وأنها من تمام النسك المشروع فيها، والجمعة من جملة الأعياد، وهي عيد الأسبوع، كما أن عيد الفطر والأضحى عيد العام.

وقوله: ((ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته)) ، ظاهره: التخيير بين الأمرين، إما الأدهان، أو التطيب، وأن أحدهما كاف.

وقوله: ((من طيب بيته)) يشير إلى أنه ليس عليه أن يطلب ما لا يجده، بل يجتزئ بما وجده في بيته.

والأدهان: هو دهن شعر الرأس واللحية مع تسريحه، وهو الترجل، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.

وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن جابر بن سمرة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد شمط مقدم رأسه ولحيته فكأن إذا ادهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر الرأس واللحية - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعمل الطيب في شعره.

وقد خرّج البخاري في ((كتابه)) هذا من حديث ربيعة، قال: رأيت شعراً من شعره – يعني: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحمر، فسألت عنه، فقيل لي: أحمر من الطيب.
وخرّج البزار في ((مسنده)) من حديث ابن عقيل، عن أنس، أن عمر بن
عبد العزيز سأله عن خضاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال له: اني رأيت شعراً من شعره قد لون؟ فقال: إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب شعر رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله: ((ثم يخرج)) يشير إلى أنه يفعل ذلك كله في بيته قبل خروجه، ثم بعد ذلك يخرج إلى المسجد.

وقوله: ((فلا يفرق بين أثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم
الإمام)) .

يأتي الكلام على هذه الثلاثة فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

وقوله: ((إلاّ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .
والمراد بذلك: الصغائر؛ بدليل ما خرَّجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)) .

وفي حديث عمارة بن عمروٍ بن حزم، عن سلمان: ((وزيادة ثلاثة أيام)) .

وخرج مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم انصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، فصلى معه غفر له ما بينه وبين الجمعة إلاخرى، وفضل ثلاثة أيام)) .

وخرَّجه أبو داود من وجهٍ آخر عن أبي هريرة، وجعل ذكر الثلاثة من قول أبي هريرة، قال: وكان أبو هريرة يقول: ((وثلاثة أيامٍ زيادةً؛ إن الله جعل الحسنة بعشر أمثالها)) .

وأما حديث ابن عباسٍ:
فقال:



[ قــ :858 ... غــ :884 ]
- ثنا أبو اليمان: نا شعيب، عن الزهري: قال طاوسٌ: قلت لابن عباسٍ: ذكروا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رءوسكم، وان لم تكونوا جنباً وأصيبوا من الطيب) ) ؟ قال ابن عباسٍ: أما الغسل، فنعم، وأما الطيب، فلا أدري.



[ قــ :859 ... غــ :885 ]
- حدثنا إبراهيم بن محمد بن موسى: أنا هشام، أن ابن جريجٍ أخبرهم، قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ، أنه ذكر قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغسل يوم الجمعة، فقلت لابن عباسٍ: أيمس طيبا، أو دهناً، إن كان عند أهله؟ فقال: لا أعلمه.

مضمون هذا: أن ابن عباسٍ روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغسل للجمعة، وأنه لم يكن عنده من ذكر الطيب والدهن علمٌ، فيحتمل أنه نفى أن يكون يعلم ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل أنه نفى أن يكون ذلك مستحباً بالكلية؛ فإنه إذا لم يكن عنده عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيء، فإنه يقتضي التوقف في استحبابه.

وفي سماع الزهري لهذا الحديث من طاوسٍ نظرٌ، ولعله بلغه عنه؛ فإنه كانَ كثير الإرسال.

* * *