فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل الجمعة

باب
فضل الجمعة
[ قــ :855 ... غــ :881 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالحٍ السمان، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكانما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فاذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) ) .

قوله: ( ( من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح) ) يدل على أن الغسل المستحب للجمعة أوله طلوع الفجر، وآخره الرواح إلى الجمعة، فإن اغتسل قبل دخول يوم الجمعة لم يات بسنة الغسل، كما لو اغتسل بعد صلاة الجمعة.

وممن قال: لا يصيب السنة بالغسل للجمعة قبل طلوع الفجر: مالكٌ، والشافعي، وأحمد، وأكثر العلماء.

وروى معناه عن ابن عمر.
خرَّجه حربٌ الكرماني بإسناد فيه نظرٌ.

وأجازه الأوزاعي، وهذا الحديث حجةٌ عليه، وكذلك حديث أبي سعيدٍ المتقدم: ( ( غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم) ) .

وحكي عن أحمد ما يدل على صحته سحراً – أيضاً.

وروي عن الشعبي ومجاهدٍ، وهو وجه للشافعية - أيضاً - وقول يحيى بن يحيى النيسابوري.

وقوله: ( ( غسل الجنابة) ) في تأويله قولان:
أحدهما: أن المراد به: تعميم بدنه بالغسل، كما يعمه بغسل الجنابة.

ويشهد لذلك: الحديث الآخر الذي فيه: ( ( فيغسل رأسه وجسده) ) .

فيكون المعنى: اغتسأله للجمعة كاغتسألة للجنابة، في المبالغة وتعميم البدن
بالماء، وهذا قول اكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم.
أن المراد به: غسل الجنابة حقيقةً، وأنه يستحب لمن له زوجة أو أمة أن يطأها يوم الجمعة، ثم يغتسل، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وحكاه عن غير واحد من التابعين، منهم: هلال بن يساف، وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهما.

وروي عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: كان يعجبهم أن يواقعوا النساء يوم الجمعة؛ لأنهم قد أمروا أن يغتسلوا، وأن يغسلوا.

وقول طائفةٍ من الشافعية، وحملوا عليه –أيضاً - حديث أوس بن أوسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( من غسل يوم الجمعة واغتسل) ) –الحديث.
وقالوا: المراد: من اغتسل بنفسه وغسل من يطؤه من زوجة أو أمةٍ.

فعلى هذا: يستدل بالحديث على أن من عليه غسل الجنابة، فاغتسل للجنابة يوم الجمعة، فإنه يجزئه عن غسل الجمعة، وسواء نوى به الجمعة، أو لم ينو.

أما إن نواهما بالغسل، فإنه يحصل له رفع حدث الجنابة وسنة غسل الجمعة بغير خلافٍ بين العلماء، روي ذلك عن ابن عمر، وتبعه جمهور العلماء.

وللشافعية وجهٌ ضعيفٌ: لا يجزئه عنهما، وقاله بعض الظاهرية.

وحكي عن مالكٍ، وقيل: إنه لا يصح عنه، إنما قاله بعض المتأخرين من
أصحابه، وقد ذكر ذلك للإمام أحمد عن مالكٍ فأنكره.

وأما أن نوى بغسله الجنابة خاصةً، فإنه يرتفع حدثه من الجنابة.

وهل يحصل له سنة إلاغتسأل للجمعة؟ على قولين: أشهرهما: لا يحصل له، وروي عن أبي قتادة الأنصاري صأحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( الأعمال بالنيات، وإنما لامريءٍ ما نوى) ) ، وهو المشهور عن مالكٍ، وروي نحوه عن الأوزاعي، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وأحمد، ونص عليه أحمد في رواية الشالنجي.
يحصل له غسل الجمعة بذلك، وهو أحد قولي الشافعي، وقول أشهب المالكي، وهو نص الشافعي، وقول أبي حنيفة وإسحاق، مع كون أبي حنيفة يعتبر النية لنقل الطهارة، وحكاه ابن عبد البر عن عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد والطبري، وهو أحد الوجهين لأصحابنا.

وأما إن نوى الجنب غسل الجمعة، ولم ينو غسل الجنابة، فهل يرتفع حدث الجنابة بذلك؟ فيه قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد.

ومن أصحابنا من رجح: أنه لا يرتفع، لأن غسل الجنابة ليس سببه الحدث؛ ولهذا يشرع للطاهر.

وعلى هذا: فهل يحصل له به سنة غسل الجمعة مع بقاء غسل الجنابة عليه؟ فيه وجهان لأصحابنا والشافعية، أصحهما: أنه يحصل له ذلك.

وأختلف أصحاب مالكٍ: هل يرتفع حدثه بنية غسل الجمعة؟
فقال: ابن القاسم: لا يجزئه، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالكٍ.

وقال أشهب وابن وهب والأكثرون منهم: يجزئه: وهو قول المزني.

وقوله: ( ( ثم راح) ) يدل على أنه لا تحصل سنة إلاغتسأل للجمعة إلا قبل صلاة الجمعة، وأنه لو اغتسل بعد الصلاة في بقية اليوم لم يكن آتياً بفضيلة الغسل المأمور به، وقد حكى ابن عبد البر وغيره إلاجماع على ذلك.

وأظن بعض الظاهرية يخالف فيه، ويزعم: أن الغسل لليوم لا للصلاة، ولا يعبأ بقوله في ذلك.

ويدل على أنه يحصل المقصود بالغسل، وإن اغتسل أول نهار الجمعة إذا كان الرواح متعقباً له.

فإن لم يتعقبه الرواح، بل أخر الرواح إلى بعده، فقال أكثر العلماء: تحصل له –أيضاً - سنة الغسل، فقالوا: ( ( ثُمَّ) ) تقتضي التراخي، فيصدق ذلك بأن يؤخر الرواح إلى الزوال.

وتأخير الغسل إلى حين الرواح أفضل، نص عليه أحمد وغيره.

وذهب طائفة إلى أنه لا تحصل له فضيلة الغسل إلا بأن يتعقبه الرواح، وهو قول مالكٍ، وحكاه الطحاوي عن الأوزاعي، وهو يخالف قوله المشهور عنه: أن الغسل للجمعة يجزئ من الليل، كما تقدم.

ومذهب مالكٍ في ذلك، أنه لا يجزئ الغسل إلا متصلا بالروح، فإن اغتسل وراح، ثم أحدث أو خرج من المسجد إلى موضع قريب، لم ينتقض غسله، وإن تباعد أو تغدى أو نام انتقض غسله وأعاده -: ذكره في ( ( تهذيب المدونة) ) .

واستدلوا بقوله: ( ( إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل) ) .

ويجاب عنه: بأن هذا كقوله تعالى { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] الآية، المراد: أنه يتضيق الوجوب على القائم للصلاة، فكذلك يتضيق وقت الغسل على الآتي إلى الجمعة.

فاما أن كان قد فعله قبل ذلك فإنه يجزئه، ولا اعادة عليه منذ قيامه ورواحه.

كمن أدى الدين الواجبٍ عليه قبل تضايق وقت أدائه، فإنه لا يؤمر بأدائه مرة آخرى بعد ذلك.

ولو اغتسل للجمعة ثم انتفض وضؤوه، فهل يستحب له اعادته، أم يكفيه الوضوء؟ فيهِ قولان:
أحدهما: يكفيه الوضوء، وهو قول عبد الرحمن بن أبزى والحسن ومجاهدٍ ومالكٍ والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد.
أنه يعيد غسله، وهو قول طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثيرٍ.

وروى ابن أبي شيبة باسناده، عن إبراهيم التيمي، قال: كانوا يحبون لمن اغتسل يوم الجمعة أن لا يكون بينه وبين الجمعة حدثٌ.
قال: وكانوا يقولون: إذا أحدث بعد الغسل عاد إلى حاله التي كان عليها قبل أن يغتسل.

وعن أبي يوسف، أنه بنى هذا إلاختلاف على أن الغسل هل هو لليوم أو للصلاة، فمن قال: أنه لليوم قال: يجزئه غسله، ومن قال: إنه للصلاة قال: يعيده؛ لأنه إذا توضأ فإنما شهد الصلاة بوضوء لا بغسلٍ.

وخالف الأكثرون في ذلك، وقالوا: بل شهد الصلاة بغسلٍ، لأن الحدث الموجب للوضوء ليس منافياً للغسل، وحصول النظافة به.

ولو أحدث حدثاً موجباً للغسل، مثل أن اجنب، فحكي عن الأوزاعي، أنه يعيد غسل الجمعة –أيضاً -؛ لأنه قد أتى بما يبطل الغسل.

وعن الجمهور خلافه؛ لأنه إنما أتى بما يوجب غسل الجنابة، فيكتفي به، ولا حاجة إلى إعادته لغسل الجمعة.

وقوله: ( ( ثم راح فكانما قرب بدنةً) ) المراد: راح في الساعة الأولى؛ بدليل قوله: ( ( ومن راح في الساعة الثانية) ) .

وقد خرَّجه مالكٍ في ( ( الموطإ) ) عن سمي بهذا إلاسناد، وفيه التصريح بذكر الساعة الأولى.

وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الساعات: هل هي من أول النهار، أو بعد زوال الشمس؟ على قولين:
أحدهما: أن المراد بها أخر الساعة التي بعد زوال الشمس؛ لأن حقيقة الرواح إنما تكون بعد الزوال، والغدو يكون قبله، كما قال تعالى: { ?غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] .

واستدلوا –أيضاً –بالحديث الآخر: ( ( المهجر إلى الجمعة كالذي يهدي بدنةٍ) ) ، فجعل البدنة بالتهجر، والتهجير إنما هو إلاتيان بالمهاجرة، وإنما يكون ذلك بعد الزوال.

هذا تأويل مالكٍ وأكثر أصحابه، ووافقهم طائفة من الشافعية على ذلك.

والقول الثاني: أن المراد بالساعات من أول النهار، وهو قول الأكثرين.

ثم اختلفوا: هل أولها من طلوع الفجر، أو من طلوع الشمس؟
فقالت طائفةٌ: أولها من طلوع الفجر، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد.

واستدلوا بقوله: ( ( إذا كان الجمعة، كان على أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الناس الأول فالأول) ) - الحديث، كما سيأتي ذكره –أن شاء الله تعالى.

وظاهره: أن ذلك يكون بعد طلوع الفجر.

وقالت طائفة: أولها من طلوع الشمس، وحكي عن الثوري وأبي حنيفة ومحمد بن إبراهيم البوشنجي، ورجحه الخطابي وغيره، لأن ما قبله وقت للسعي إلى صلاة الفجر.

ورجح هذا القول عبد الملك بن حبيبٍ المالكي.

وهؤلاء حملوا الساعات على ساعات النهار المعهودة، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم.

وأما ذكر الرواح، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه لما كان آخر الساعات بعد الزوال، وهو رواحٌ حقيقيٌ، سميت كلها رواحاً، كما يسمى الخارج للحج والجهاد حاجاً وغازياً قبل تلبسه بالحج والغزو؛ لأن امره ينتهي إلى ذلك.
أن الرواح هنا اريد به القصد والذهاب، مع قطع النظر عن كونه قبل الزوال أو بعده.

قال الأزهري وغيره: الرواح والغدو عند العرب يستعملان في السير، أي وقتٍ كان من ليلٍ أو نهارٍ، يقال: راح في أول النهار وآخره، وغدا بمعناه.

وأما التهجير، فيجاب عنه، بأنه استعمل في هذا المعنى بمعنى التبكير –أيضاً – لا بمعنى الخروج في الهاجرة.

وقيل: أنه ليس من الهاجرة، بل من الهجرة، والمراد بها: هجر الأعمال الدنيوية للسعي إلى الجمعة.

وقد دل على استحباب التبكير من أول النهار حديث أوس بن أوسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وبكرٍ وابتكر، ودنا واستمع كان له بكل خطوة يخطوها اجر سنة صيامها وقيامها) ) .

خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في
( ( صحيحه) ) .

وحسنه الترمذي.

وله طرقٌ متعددةٌ، قد ذكرناها في ( ( شرح الترمذي) ) .

وفي رواية للنسائي: ( ( وغدا وابتكر) ) .

وفي بعض رواياته: ( ( ومشى ولم يركب) ) .

وظاهر الحديث: يدل على تقسيم يوم الجمعة إلى اثني عشر ساعة، وأن الخطبة والصلاة يقعان في السادسة منها.

ومتى خرج الخطيب طوت الملائكة صحفها، ولم يكتب لأحدٍ فضل التبكير، وهذا يدل على أنه بعد الزوال لا يكتب لأحد شيءٌ من فضل التبكير إلى الجمعة بالكلية.

وظاهر الحديث: يدل على تقسيم نهار الجمعة إلى اثني عشر ساعةً مع طول النهار وقصره، فلا يكون المراد به الساعات المعروفة من تقسيم الليل والنهار إلى أربعة وعشرين ساعة؛ فإن ذَلِكَ يختلف باختلاف طول النهار وقصره.

ويدل على هذا: حديث جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ( ( يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعةٍ بعد
العصر)
)
.

خرَّجه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقاتٌ.

وظاهره: يدل علي أن ساعة إلاجابة جزء من هذه إلاجزاء إلاثني عشر المتساوية في جميع فصول السنة.

وزعم بعض الشافعية: أنه ليس المراد بالساعات في التبكير الأربع والعشرون، بل ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة.

ورد ذلك آخرون منهم، وقالوا: من جاء في أول ساعةٍ من هذه الساعات وآخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو الكبش مثلا، ولكن بدنة الأول أو بقرته أكمل مما للذي جاء في آخرها، وبدنة المتوسط متوسطةٌ.

وهذا هو الأقرب، وعليه يحمل الحديث الذي خرَّجه عبد الرزاق، عن ابن
جريج، عن سميَّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا كان يوم الجمعة فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة، ثم غدا في أول ساعةٍ، فله من إلاجر مثل الجزور، وأول الساعة وآخرها سواء) ) - وذكر مثل ذلك في الثانية، والثالثة، والرابعة، يقول: ( ( أولها وآخرها سواءٌ) ) ، وزاد في آخر الحديث: ( ( ثم غفر له إذا استمع وأنصت ما بين الجمعتين، وزيادة ثلاثة أيامٍ) ) .

وفي هذه الرواية: ذكر الغدو إلى الجمعة، والغدو يكون من أول النهار.

وقوله: ( ( فكأنما قرب بدنةً، فكأنما قرب بقرةً) ) –إلى آخره – يدل على أن أفضل ما يتقرب به من الهدايا البدن، ثم البقر، ثم الغنم، وهو قول الجمهور، خلافاً لمالكٍ، ويذكر في موضعٍ آخر مستوفىَ –أن شاء الله تعالى.

ويدل –أيضاً - على أن الجمعة فيها شبهٌ من الحج، وقد روي في حديث ضعيف: ( ( الجمعةُ حجُ المساكين) ) .

قال ابن المسيب: شهود الجمعة أحب الي من حجةٍ نافلةٍ.

وخرج البيهقي من حديث سهل بن سعد –مرفوعاً -: ( ( إن لكم في كل جمعة حجةً وعمرةً، فالحجة التهجير للجمعة، والعمرة انتظار العصر بعد الجمعة) ) .

وقال: هو ضعيف ٌ.

وقد روي: ( ( إن المؤمن يصبح يوم الجمعة كالمحرم، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره حتى يصلي) ) .

وقد حكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما كرها أن يجعل يوم الجمعة ميقاتاً لأخذ الشعر والظفر، واستدل لهما بهذا الحديث.

وقدروي من حديث علي –مرفوعاً -: أن ذلك يكون يوم الخميس، وإسناده لا يصح.

واستحب بعض أصحابنا فعله يوم الخميس؛ لذلك.

والحديث الذي ذكر فيه إلاحرام، هو بإسنادٍ مجهولٍ، عن أبي معشرٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر –مرفوعاً -: ( ( يصبح الرجل محرماً يوم الجمعة، فلا يحل حتى يصلي، فاذا جلس في مكانه حتى يصلي العصر رجع بحجةٍ وعمرةٍ) ) .

وهو منكرٌ، لا يصح.

قال البيهقي: قد روي عن ابن عباسٍ – مرفوعاً – في ( ( المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم، لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى تنقضى الصلاة) ) ، وعن ابن عمر – مرفوعاً -: ( ( المسلم يوم الجمعة محرمٌ، فاذا صلى فقد أحل) ) ، فانما رويا عنهما باسنادين ضعيفين، لا يحتج بمثلهما.

قال: وفي الرواية الصحيحة عن ابن عمر من فعله دليلٌ على ضعف ما خالفه.

وروي من طريق ابن وهبٍ، بإسنادٍ صحيح، عن نافعٍ، أن ابن عمر كان يقلم أظفاره ويقص شاربه في كل جمعةٍ.

قال: وروينا عن أبي جعفرٍ - مرسلاً -، النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستحب أن ياخذ من شاربه وأظفاره يوم الجمعة.

وروى بإسناده، عن معاوية بن قرة: قال: كان لي عمان قد شهدا الشجرة، يأخذان من شواربهما وأظفارهما كل جمعة.

وخرّج البزار في ( ( مسنده) ) والطبراني من رواية إبراهيم بن قدامه، عن الأغر، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة، قبل أن يخرج إلى الصلاة.

قال البزار: لم يتابع إبراهيم بن قدامة عليه، وهو إذا انفرد بحديثٍ لم يكن حجةً؛ لأنه ليس بمشهورٍ.

قلت: وقد روي عنه، عن عبد الله بن عمروٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قال ابن أبي عاصمٍ: أحسب هذا – يعني: عبد الله بن عمروٍ –رجلاً من بني
جمحٍ، أدخله يعقوب بن حميد بن كاسبٍ في ( ( مسند قريش) ) في الجمحيين.

يشير إلى أنه ليس ابن العاص.

وكذا ذكر ابن عبد البر، وزاد أن في صحبته نظرا.

وفي الباب – أيضاً - من حديث ابن عباسٍ وعائشة وأنسٍ، أحاديث مرفوعة، ولا تصح أسانيدها.

وقال راشد بن سعد: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: من اغتسل يوم الجمعة واستاك وقلم أظفاره فقد اوجب.

خرَّجه حميد بن زنجويه.

وممن استحب ذلك: النخعي.

قال مكحولٌ: من قص شاربه وأظفاره يوم جمعة لم يمت من الماء الأصفر.

وقال حميدٌ الحميري من قص أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه الداء، وادخل فيه الشفاء.

وكان الإمام أحمد يفعله.

واستحبه أصحاب الشافعي وغيرهم؛ فإنه من كمال التنظف والتطهر المشروع في يوم الجمعة، فيكون مستحبا فيه، كالطيب والدهن، والمحرم بخلاف ذلك.

ويشهد لذلك: ما خرَّجه ابن حبان في ( ( صحيحه) ) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( من فطرة إلاسلام: الغسل يوم الجمعة، والاستنان، وأخذ الشارب، وإعفاء اللحى؛ فإن المجوس تحفى شواربها وتحفى لحاها، فخالفوهم، خذوا شواربكم وأعفوا لحاكم) ) .

فقرن أخذ الشارب بغسل يوم الجمعة والاستنان، وقد صح الأمر بالاستنان في يوم الجمعة –أيضاً.

* * *

باب
[ قــ :856 ... غــ :88 ]
- حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن عمر بن الخطاب بينما هو يخطب يوم الجمعة، إذ جاء رجلٌ، فقال عمر بن الخطاب: لم تحتسبون عن الصلاة؟ فقالَ الرجل: ما هوَ إلا أن سمعت النداء، فتوضأت.
فقالَ: ألم تسمعوا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( ( إذا راح أحدكم إلى الجمعة
فليغتسل)
)
؟ .

وخرَّجه مسلم من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، وسمى الداخل:
( ( عثمان بن عفان) ) وقال في حديثه: فعرض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟
وهذا يستدل به على إنكار الإمام علي من يتأخر إلى بعد النداء، خصوصاً إن كان من أهل الفضائل الدينية، وكذلك ينكر عليه تقصيره في إلاخلال ببعض سنن الجمعة ومندوباتها المكتوبة، كالغسل ونحوه.
وقد روي هذا المعنى – مرفوعاً – من وجوه:
خرّج ابن حبان في ( ( صحيحه) ) من حديث ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ، عن جابرٍ، قال: دخل سليكٌ الغطفاني المسجد، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، فقال له: ( ( أركع ركعتين، ولا تعودن لمثل هذا) ) ، فركعهما، ثم جلس.

قال ابن حبان: أراد: لا تعودن إلى إلابطاء في المجيء الىالجمعة، لأن في حديث أبي سعيدٍ، أنه امره بالركعتين –أيضاً – في الجمعة الثانية.

وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن يسر، قال: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أجلس، فقد آذيت
وآنيت)
)
.

وخرَّجه أبو داود والنسائي، وليس عندهما: ( ( وآنيت) ) .

ومعنى: ( ( آنيت) ) : ابطأت في المجيء، وأخرته عن آوانه.

وخرَّجه ابن ماجه من حديث جابر، بإسنادٍ ضعيفٍ.

وخرّج الطبراني وغيره من رواية عمر بن الوليد الشني، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: جاء رجلٌ والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( يلهو أحدكم، حتى إذا كادت الجمعة تفوته جاء يتخطى رقاب الناس يؤذيهم) ) .
فقال:
يا رسول الله، ما فعلت، ولكني كنت راقداً، فاستيقظت، ثم تؤضأت وجئت.
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أو يوم وضوءٍ هذا؟!) ) .

وعمر بن الوليد: ضعيف الحديث.

وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ: اخبرني عمروٍ بن دينارٍ، عن عكرمة، أن عثمان جاء وعمر يخطب –فذكر الحديث بمعنى رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة التي خرجها البخاري هاهنا.

وهذا أصح.
والله أعلم.

* * *