فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: يهوي بالتكبير حين يسجد

باب
يهوي بالتكبير حين يسجد
وقال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه.

بوب على أن التكبير للسجود يكون في حال الهوي إلى الأرض بالسجود.

وذكر فيه أحكاماً أخرى من أحكام السجود.

فأما التكبير في حال الهوي، فروي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة.

وكان عبد الله بن يزيد الخطمي يهوي بالتكبير، فكانه في أرجوحة حتى يسجد.

وقال النخعي: كبر وأنت تهوي، وأنت تركع.

يشير إلى أن التكبير للركوع يكون –أيضاً - في حال الهوي إليه كالسجود.

والهوي: هو السقوط والأنخفاض، وهو بتشديد الياء، وأما الهاء فمضمومة.
وقيل: بفتحها: ثم قيل: هما لغتان.
وقيل: بل هو بالضم الصعود، وبالفتح النزول.

وقال بعض أصحابنا: يكون تكبير الخفض والرفع والنهوض ابتداؤه مع ابتداء الأنتقال، وأنتهاؤه مع أنتهائه، فإن كمله في جزء من الانتقال، ولم يستوعبه به أجزأه، لأنه لم يخرج به عن محله، وأن شرع فيه قبله أو كمله بعده، فوقع بعضه خارجاً منه، فهو كتركه، لأنه لم يكمله في محله، فهو كمن تمم قراءته في الركوع.

قال: هذا هو قياس المذهب.

قال: ويحتمل أن يعفى عن ذلك؛ لأن التحرز منه يعسر، والسهو به يكثر، ففي ابطال الصلاة بعمده، وإيجاب السجود لسهوه مشقة.

وقال أصحاب الشافعي: يبتدئ تكبير الركوع قائماً، ويمده إلى أن يصل إلى حد الراكع.

قالوا: هذا هو الذي نص عليه الشافعي في ( ( الأم) ) .
وقطع به العراقيون.

وحكى الخراسانيون قولين: أحدهما: هذا.
قالوا: وهو الجديد.
والثاني –وهو القديم -: لا يديم التكبير بل يسرع به.

قالوا: والقولان جاريان في جميع تكبيرات الأنتقالات: هل تحذف، أم تمد حتى يصل إلى الذكر الذي بعدها؟ والصحيح: المد.

وقالوا في تكبير السجود: أنه يشرع به من حين يشرع في الهوي، ولم يقولوا: أنه يبتدئه قائماً، كما قالوا في تكبير الركوع، وهو خلاف نص الشافعي؛ فإنه حكوا عنه أنه قال في ( ( الأم) ) : أحب أن يبتدئ التكبير قائماً وينحط مكانه ساجداً.
قال: وأن أخر التكبير عن ذلك - يعني: عن الإنحطاط -، أو كبر معتدلاً، أو ترك التبكير كرهت ذلك.
أنتهى.

وهذا يدل على أن تأخير التكبير عن الأنحطاط وتقديمه عليه كتركه.

وممن رأى التكبير في الهوي للسجود وغيره.
مالك والثوري وأحمد وغيرهم.

وأما ما ذكره البخاري، عن نافع –تعليقاً -، قال: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه.

فخَّرج ابن خزيمة في ( ( صحيحه) ) والدارقطني من رواية أصبغ بن الفرج، عن الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ذلك.
وخَّرجه الحاكم والبيهقي من رواية محرز بن سلمة، عن الدراوردي، به.

وقال البيهقي: ما أراه إلا وهماً – يعني: رفعه.

وقد رواه ابن أخي ابن وهب، عن عمه، عن الدراوردي كذلك.

وقيل: أن أشهب رواه عن الدراوردي كذلك.

ورواه أبو نعيم الحلبي، عن الدراوردي، فوقفه على ابن عمر.

قال الدارقطني: وهو الصواب.

وروى عن ابن عمر خلاف ذلك؛ روى ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يضع ركبتيه إذا سجد قبل يديه، ويرفع يديه إذا رفع قبل ركبتيه.

خرَّجه ابن أبي شيبة.
وروى شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.

خرَّجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن.

وخَّرجه الحاكم، وصححه.

وهو مما تفرد به شريك، وليس بالقوي.

وخَّرجه أبو داود من طريق همام، عن محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن
وائل، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قال همام: ونا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثله.

فهذا الثاني مرسل، والأول منقطع، لأن عبد الجبار بن وائل لم يدرك أباه.
وفي الباب أحاديث أخر مرفوعة، لا تخلو من ضَّعف.

وروي في عكس هذا من حديث أبي هريرة، ولا يثبت –أيضاً -، وأجود طرقه: من رواية محمد بن عبد الله بن حسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل
ركبتيه)
)
.

خرَّجه أبو داود والنسائي والترمذي مختصراً، وقال: غريب.

وقال حمزة الكناني: هو منكر.

ومحمد راويه، ذكره البخاري في ( ( الضعفاء) ) ، وقال: يقال: ابن حسن، ولا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد، أم لا؟
فكأنه توقف في كونه محمد بن عبد الله بن حسين بن حسن الذي خرج بالمدينة على المنصور، ثم قتله المنصور بها.
وزعم حمزة الكناني، أنه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان الذي يقال له: الديباج، وهو بعيد.

واختلفت العلماء في الساجد: هل يضع ركبتيه قبل يديه، أم يديه قبل ركبتيه؟ فقال الأكثرون: يضع ركبتيه قبل يديه.

قال الترمذي: وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله.

وهو قول مسلم بن يسار، وأبي قلابة، وابن سيرين، والنخعي والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال حجاج، عن أبي إسحاق: كان أصحاب عبد الله إذا أنحطوا للسجود وقعت ركبهم قبل أيديهم.

وكره النخعي أن يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: هل يفعله إلا مجنون؟!
وقالت طائفة: يبدأ بيديه قبل ركبتيه، وهو مروي عن الحسن، وقد روي عن ابن عمر كما تقدم، وحكي رواية عن أحمد.

ومن أصحابنا من خصها بالشيخ الكبير والضعيف خاصة، وهو أصح.

وقال الأوزاعي: أدركت الناس يصنعونه.

وهو قول مالك.
وروي عنه، أنهما سواء.
وقال قتادة: فيضع أهون ذلك عليه.

خَّرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث الأول:

[ قــ :782 ... غــ :803 ]
- نا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة كان يكَّبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضأن وغيره، فيكبر حين يقوم، ثم يكَّبر حين يركع، ثم يقول: ( ( سمع الله لمن حمده) ) ، ثم يقول: ( ( ربنا ولك الحمد) ) قبل أن يسجد، ثم يقول:
( ( الله اكبر) ) حين يهوي ساجداً، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكَّبر حين يسجد، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكَّبر حين يقوم من الجلوس في الاثنين، ويفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده، أني لأقربكم شبهاً بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا.



[ قــ :783 ... غــ :804 ]
- قالا: وقال أبو هريرة، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يرفع رأسه يقول:
( ( سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) ) يدعو لرجال، فيسمهم باسمائهم، فيقول:
( ( اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفون من المؤمنين، اللهم، اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) ) .
وأهل المشرق يومئذ من مضر، مخالفون له.

مقصوده من هذا الحديث في هذا الباب: التكبير للسجود حين يهوي ساجداً، وقد فعله أبو هريرة، وذكر أن هذه الصلاة كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى فارق
الدنيا.

وقد خرَّجه مختصراً فيما تقدم من رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وحده.

ومن رواية عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن وحده.
وفي هذه الرواية زيادة القنوت بعد الركوع؛ للدعاء على المشركين، والدعاء للمستضعفين من المؤمنين.

فأما القنوت، فيأتي الكلام عليه في موضعه – إن شاء الله تعالى.

وأما تسمية الرجال المدعو لهم وعليهم في الصلاة، فجائز عند أكثر العلماء، منهم: عروة والأوزاعي والشافعي وأحمد وغيرهم، وروي عن أبي الدرداء.

وكرهه عطاء والنخعي وأحمد – في رواية.

وعند الثوري وأبي حنيفة: أن ذلك كلام يبطل الصلاة.

واستدل لهم بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرف أصحابه عن سلامهم في التشهد على جبريل وميكائيل، وأمرهم أن يسلموا على عباد الله الصالحين عموماً.

ولا حجة في ذلك؛ لأنه إنما قصد جوامع الكلم واختصاره.

وسيأتي ذلك في موضع أخر – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقوله: ( ( وأهل المشرق من مضر مخالفون له) ) ، يريد: قبائل من مضر، كانوا مشركين، وكانت اقامتهم بأرض نجد وما والاها؛ لأن ذلك مشرق المدينة، ولهذا قال له عبد القيس – عند قدوم وفدهم عليه -: بيننا وبينك هذا الحي من مضر، ولن نصل إليك إلا في شهر حوام، وكان عبد القيس يسكنون بالبحرين.

وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال فيهم: ( ( هم خير أهل المشرق) ) .




[ قــ :784 ... غــ :805 ]
- نا علي بن عبد الله: نا سفيان –غير مرة -، عن الزهري، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سقط رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فرس – وربما قال سفيان: من فرس -، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعداً فقعدنا – وقال سفيان مرة: صلينا قعوداً -، فلما قضى الصلاة قال: ( ( أنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كَّبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فأرفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فأسجدوا) ) .

كذا جاء به معمر؟ قلت: نعم.
قال: لقد حفظ كذا قال الزهري: ( ( ولك الحمد) ) ، حفظت منه ( ( شقه الأيمن) ) ، فلما خرجنا من عند الزهري، قال ابن جريج – وأنا عنده -: ( ( فجحش ساقة الأيمن) ) .

هذا الحديث خرَّجه البخاري عن شيخه علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، وذكر أن سفيان لما حدثه به سأله: أهكذا جاء معمر؟ فقال ابن المديني: نعم، فقال سفيان: لقد حفظ، فاثتنى ابن عيينة على معمر بالحفظ حيث وافقه على رواية هذا الحديث عن الزهري.

وذكر ابن عيينة: أن الزهري قال في هذا الحديث: ( ( ولك الحمد) ) –يعني: بالواو -، وأنه حفظ منه: ( ( فجحش شقه الأيمن) ) ، فلما خرجوا من عند الزهري قال لهم ابن جريج: إنما هو ( ( فجحش ساقه الأيمن) ) .

والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن سجود المأموم يكون عقيب سجود الإمام، وكذلك سائر افعاله تكون عقيب أفعال الإمام.

وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى، وعلي بقية فوائد هذا الحديث، من الصلاة خلف الجالس، وهل يصلي من خلفه من قعود أو قيام؟ بما فيه كفاية – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

***