فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من أسمع الناس تكبير الإمام

بَابُ
مَنْ أسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإِمامِ
[ قــ :691 ... غــ :712 ]
- حدثنا مسدد: ثنا عبد الله بن داود: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لما مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرضه الذي مات فيهِ أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، قالَ: ( ( مروا أبا بكر فليصل بالناس) ) .
قلت: إن أبا بكر رجل أسيف، إن يقم مقامك يبك، فلا يقدر على القراءة.
فقالَ: ( ( مروا أبا بكر فليصل) ) .
فقلت مثله.
فقالَ في الثالثة – أو الرابعة -: ( ( إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل) ) ، فصلى.
وخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهادي بين رجلين، كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض، فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر، فأشار إليه أن صل، فتأخر أبو بكر وقعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جنبه، وأبو بكر يسمع الناس التكبير.

تابعه: محاضر، عن الأعمش.

قد سبق ذكر حديث عائشة بألفاظه وطرقه.

وما ذكر فيهِ في هذه الرواية من تأخر أبي بكر فمنكر مخالف لسائر الرويات.

وإنما المقصود منه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائم يسمع الناس تكبير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا يدل على شيئين:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صحته لم يكن من عادته أن يبلغ أحد وراءه التكبير، بل كانَ هوَ يسمع أهل المسجد تكبيره، فلا يحتاج إلى من يبلغ عنه.

وقد خرج البخاري – فيما بعد – حديث سعيد بن الحارث، قالَ: صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع قامته من السجود، وحين سجد، وحين قام من الركعتين، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: فجهر بالتكبير حين افتتح الصلاة، وحين ركع، وحين قالَ: سمع الله لمن حمده، وحين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين قام من الركعتين حتى قضى صلاته على ذَلِكَ، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي.

وخرجه البيهقي، وعنده: وبعد أن قالَ: سمع الله لمن حمده.

وهذا إشارة إلى تكبير السجود، بدليل: أنه قالَ بعده: وحين رفع رأسه من السجود، وحين سجد.

وزاد البيهقي في روايته: وحين رفع.
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مرض ضعف صوته عن إسماع أهل المسجد، وكان أبو بكر حينئذ يسمع الناس تكبيره، ويبلغ عنه.

وقد روي عنه، أنه فعل ذَلِكَ – أيضا – في مرض آخر عرض لهُ في حياته:
ففي ( ( صحيح مسلم) ) من حديث أبي الزبير، عن جابر، قالَ: اشتكى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره – وذكر في الحديث: أنه أشار إليهم أن اجلسوا.
وقد سبق بتمامه.

وفي رواية لمسلم - أيضا -: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر وأبو بكر خلفه، فإذا كبر كبر أبو بكر يسمعنا.

فمتى كانَ الإمام صوته ضعيفا لمرض أو غيره، ولم يبلغ المأمومين صوته، وكان المسجد كبيرا لا يبلغه صوت الإمام، شرع لبعض المأمومين أن يبلغ الباقين التكبير جهرا، ويكون الجهر على قدر الحاجة إليه، من غير زيادة على ذَلِكَ.

وروى وكيع: ثنا المغيرة بن زياد، قالَ: رأيت عطاء بن أبي رباح صلى في السقيفة التي في المسجد لحرام في نفر، وهم متفرقون عن الصفوف، فقلت لهُ: فقالَ: إني شيخ كبير ومكة دونه كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأصابهم مطر، فصلى بالناس في رحالهم، وبلال يسمع الناس التكبير.

وروى بكر بن محمد، عن الحكم، عن أبيه، أنه سأل أحمد عن الرجل يكبر يوم الجمعة يسمع الناس؟ قالَ: صلاته تامة، هذا منفعة للناس؛ قد كانَ عمر يسمع صوته بالبلاط.
قيل لهُ: فيأخذ على هذا أجرا في تكبيره يسمع الناس؟ قالَ: لا أدري.

قالَ أبو بكر عبد العزيز بن جعفر، قوله: ( ( لا أدري) ) كأنه – والله أعلم – يكرهه.

قالَ: وإن أخذ من بيت المال جاز؛ لأن حقه فيهِ – يعني: أن حق المؤذنين في بيت المال -، وإن أخذ من غيره فهوَ مكروه.
انتهى.

والأخذ من الوقف كالأخذ من بيت المال في هذا.

ومنى بلغ المأموم زيادة على قدر الحاجة، أو بلغ من غير حاجة إليه كانَ مكروها.

وظاهر الحديث: يدل على أن المأموم إذا اقتدى بالإمام بسماع التكبير من غيره صح اقتداؤه به، وعلى هذا أكثر الفقهاء.

واختلف فيهِ أصحاب مالك، فمنهم من أجازه.
ومنهم من منعه، وعلل بأنه اقتدى بغير الإمام.
ومنهم من قالَ: إن كانَ الإمام إذن للمبلغ في التبليغ صح الاقتداء به.

واختلفوا – أيضا – فيمن سمع التكبير، ولم ير الإمام، ولا من خلفه: هل يصح اقتداؤه بالإمام في هذه الحالة، أم لا يصح؟
يفرق بين أن يكون في المسجد فيصح، وبين أن يكون خارج المسجد فلا يصح.

وقد حكي في ذَلِكَ روايات متعددة عن الإمام أحمد، وربما نذكر المسألة في موضع آخر – إن شاء الله تعالى.

وقال أحمد – في رواية منهأ – فيمن صلى الجمعة، فلم يسمع تكبير الإمام، ولا غير الإمام: ليس عليهِ إعادة.
وقال: كل الناس يسمعون التكبير؟ إنما ينظر بعضهم إلى بعض.

وقال سفيان الثوري في القوم لا يرون الإمام عندَ الركوع والسجود: أجزأهم أن يتبعوا من قدامهم من الصفوف؛ الناس أئمة بعضهم لبعض.