فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا زار الإمام قوما فأمهم

بَاب
إذا زَارَ [الإمَامُ] قَوْماً فَأَمَّهُمْ
[ قــ :665 ... غــ :686 ]
- حَدَّثَنَا معاذ بن أسد: ثنا عَبْد الله: أنا معمر، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني محمود بْن الربيع، قَالَ: سَمِعْت عتبان بْن مَالِك الأنصاري قَالَ: استأذن عَلِيّ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأذنت لَهُ، فَقَالَ: ( ( أين تحب أن أصلي من بيتك؟) ) فأشرت لَهُ إلى المكان الَّذِي أحب، فقام وصففنا خلفه، ثُمَّ سلم فسلمنا.

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث مطولاً ومختصراً فِي ( ( أبواب المساجد) ) .

وإنما مقصوده مِنْهُ هاهنا: أَنَّهُ يجوز للزائر أن يؤم فِي منزل من زاره بإذنه.

وقد اختلف فِي كراهة ذَلِكَ:
فكرهه طائفة: منهم: إِسْحَاق، واستدل بما رَوَى بديل بْن ميسرة، عَن أَبِي عطية مَوْلَى لهم، عَن مَالِك بْن الحويرث، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم: ( ( من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رَجُل منهم) ) .

خرجه أبو داود والترمذي.
وخرجه النسائي بمعناه، وحسنه الترمذي.

وقد عمل بهذا الحَدِيْث مَالِك بْن الحويرث، ولم يتقدم فِي منزل غيره مَعَ أمرهم لَهُ بالتقدم، واستدل بما رواه.
وأبو عطية هَذَا، قَالَ ابن المديني: لا نعرفه.

رَوَى إِسْحَاق بْن يَحْيَى بْن طلحة، عَن المُسَيِّب بْن رافع ومعبد بْن خَالِد، عَن عَبْد الله بْن يزيد الخطمي – وكان أميراً عَلَى الكوفة -، فَقَالَ: أتينا قيس بْن سعد بْن عُبَادَة فِي ببيته، فأذن بالصلاة، فقلنا لقيس: قم فصل لنا، فَقَالَ: لَمْ أكن لأصلي بقوم لست عليهم بأمير، فَقَالَ رَجُل ليس بدونه – يقال لَهُ: عَبْد الله ابن حنظلة الغسيل -: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( الرَّجُلُ أحق أن يؤم فِي رحله) ) .

خرجه الجوزجاني.

وخرجه الطبراني والبزار، وعنده: ( ( فِي بيته) ) ، وزاد: ( ( فأمر مَوْلَى لَهُ فتقدم فصلى) ) .

وخرجه البيهقي – أَيْضاً – بمعناه.

وإسحاق هَذَا، ضَعِيف جداً.

وقد روي هَذَا المعنى من وجوه متعددة فيها ضعف.

وروى أبو نضرة، عَن أَبِي سَعِيد مَوْلَى أَبِي أسيد، قَالَ: بنيت عَلَى أهلي وأنا مملوك، فدعوت أناساً من أصْحَاب رَسُول الله عود وأبو ذر وحذيفة، فحضرت الصلاة، فَقُلْت: بتقدم بعضكم.
فقالوا: لا، تقدم أنت أحق فقدموني.

خرجه وكيع وابن أَبِي شيبة وغيرهما.

واستدل بِهِ بِهِ أحمد وغيره عَلَى إمامة العبد.

وروى أبو إِسْحَاق، عَن علقمة – قَالَ: ولم أسمعه مِنْهُ – أن ابن مَسْعُود أتى أَبَا موسى فِي منزله، فحضرت الصلاة، فَقَالَ أبو موسى تقدم يَا أَبَا عَبْد الرحمن؛ فإنك أقدمنا سنا وأعلم.
قَالَ: بل تقدم أنت؛ فإنما أتيناك فِي منزلك ومسجدك، فأنت أحق فتقدم أبو موسى.

وَقَالَ أشعث، عَن الْحَسَن: صاحب البيت أحق بالإمامة.

ورخص آخرون فِي إقامة الزائر بإذن رب البيت، وَهُوَ قَوْلِ مَالِك وأحمد.

وهذا القول هُوَ الَّذِي بوب عَلِيهِ البخاري هاهنا، ولكنه لَمْ يشترط الإذن.

وقد وافقه ابن عقيل من أصحابنا،.

     وَقَالَ : إنما يكون رب البيت وإمام المسجد أولى ممن سواه لا ممن هُوَ أقرأ مِنْهُ أو أفقه.

وظاهر هَذَا: أَنَّهُ يقدم الأقرأ والأفقه مطلقاً، عَلَى إمام المسجد ورب البيت، بإذنه وغيره.

وقد روي عَن حميد بْن عَبْد الرحمن مَا يدل عَلَى ذَلِكَ – أَيْضاً -، وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

وأكثر العلماء عَلَى أَنَّهُ إنما يقدم عَلَى رب البيت وإمام المسجد بإذنه، وإنما يعتبرر الإذن فِي حق غير النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد ذكر أبو بَكْر الأثرم فِي كتابه ( ( الناسخ والمنسوخ) ) أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يصلي بالقوم إذا زارهم من غير استئذان؛ لأنه كَانَ إمام النَّاس كلهم حيث مَا كَانَ، وليس هَذَا لغيره.
قَالَ: والنهي عَن إمامة الزائر يحمل فِي حق أمته عَلَى إمامتهم بغير إذنهم.

وفي ( ( صحيح مُسْلِم) ) عَن أَبِي مَسْعُود، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لا يؤمن الرَّجُلُ الرَّجُلُ فِي سلطانه، ولا بقعد فِي بيته عَلَى تكرمته إلا بإذنه) ) .

قَالَ الإمام أحمد: أرجو أن يكون الاستثناء عَلَى كله، وأما التكرمة فلا بأس بِهِ إذا أذن.

يعني: أن الاستثناء يعود إلى الجلوس عَلَى التكرمة قطعاً من غير شك، ويرجى عوده إلى الإمامة فِي سلطانه – أَيْضاً -، فيكون مرخصاً فيها بإذنه.

وفسر سُفْيَان وأحمد السلطان فِي هَذَا الحَدِيْث بداره.

ونقل حرب عَن أحمد، قَالَ: إذا كَانَ الرَّجُلُ فِي قريته وداره فهو فِي سلطانه، لا ينبغي لأحد أن يتقدمه إلا بإذنه.

وفي رِوَايَة لمسلم فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ولا يؤمن الرَّجُلُ فِي أهله ولا فِي سلطانه) ) .

وعلى هذه الرواية، فالمراد بأهله: بيته، وبسلطانه: مَا يتصرف فِيهِ بأمره ونهيه، كأمير البلد.

وخرجه أبو داود، ولفظه: ( ( ولا يؤمن الرَّجُلُ فِي بيته، ولا فِي سلطانه) ) .

ولو اجتمع السلطان العام والسلطان الخاص، مثل أن يجتمع فِي بيت رَجُل رب البيت وسلطان المصر، أو فِي مسجد إمام المسجد والسلطان، فهل يقدم السلطان عَلَيْهِمَا، أم يقدمان عَلِيهِ، أم يقدم عَلَى إمام المسجد دون صاحب البيت؛ لأن إمام المسجد إنما يقدم بتقديم السلطان لَهُ غالباً؟ فِيهِ ثَلاَثَة أوجه لأصحابنا.

وظاهر مَا تقدم عَن قيس بْن سعد يقتضي أن رب البيت أولى من السلطان وإمام المسجد، كرب البيت فيما ذكرنا.

وروى الشَّافِعِيّ: أنا عَبْد المجيد، عَن ابن جُرَيْج، قَالَ: أخبرني نَافِع، قَالَ: أقيمت الصلاة فِي مسجد بطائفة المدينة، ولابن عُمَر قريب من ذَلِكَ المسجد أرض يعملها، وإمام ذَلِكَ المسجد مولى لَهُ، ومسكن ذَلِكَ المَوْلَى وأصحابه ثُمَّ، فلما سمعهم عَبْد الله جَاءَ ليشهد معهم الصلاة، فَقَالَ لَهُ المولى صاحب المسجد: تقدم فصل.
فَقَالَ عَبْد الله: أنت أحق أن تصلي فِي مسجدك مني، فصلى المولى.

قُلتُ: لعل هَذَا المولى كَانَ عتيقاً لابن عُمَر، وأما لَوْ كَانَ رقيقاً لَهُ ففي كونه أولى بالإمامة نظر.

وقد قَالَ أصحابنا: السيد فِي منْزل عبده أولى مِنْهُ بالإمامة؛ لأنه يملكه ويملك منْزله.

وهذا قَدْ يبنى عَلَى أن العبد: هَلْ يملك ماله، أم هُوَ ملك للسيد؟ وفيه خلاف مشهور.
والله أعلم.

وروى أبو قيس، عَن هزيل بْن شرحبيل، قَالَ: جَاءَ ابن مَسْعُود إلى مسجدنا، فأقيمت الصلاة، فقلنا لَهُ: تقدم.
فَقَالَ: يتقدم إمامكم.
فقلنا: إن إمامه ليس هاهنا.
قَالَ: يتقدم رَجُل منكم.

خرجه البيهقي.
وهذا مِمَّا يشهد لَهُ مَا تقدم عَن أحمد، أن الرَّجُلُ إذا كَانَ فِي قريته فهو فِي سلطانه، فلا يتقدم عَلِيهِ.

وروى حرب بإسناده، عَن الْحَسَن، أَنَّهُ دَخَلَ مسجداً، فَقَالَ لَهُ إمامه: تقدم يَا أَبَا سَعِيد، قَالَ: الإمام أحق بالإمامة.

وروي عَن حميد بْن عَبْد الرحمن، أَنَّهُ تقدم فِي بعض البوادي عَلَى إمامهم بغير إذن، وكره إمامه الأعرابي، وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.