فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل التأذين

باب
فضل التاذين
[ قــ :592 ... غــ :608 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى".

النداء بالصلاة، المراد به: الأذان للصلاة.

والتثويب، المراد به: الإقامة؛ فإنه رجوع إلى النداء، يقال: ثاب الرجل، إذا رجع.

ومنه: قوله تعالى:: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:125] ، أي: يترددون ويرجعون إليه.

ومنه: حديث أبي هريرة: " إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون" - الحديث.

وقيل: سميت الإقامة تثويباً؛ لترديد قوله: " قد قامت الصلاة" مرتين.
وهو بعيد حكاه الخطأبي، ورجح أنها تسمى " تثويباً" لرفع الصوت بها.

قال: والتثويب: الاستغاثة، واصله أن يلوح الرجل بثوبه عند الفزع، يعلم أصحابه.

وهذا الذي قاله ضعيف، ولو كان صحيحاً لكان تسمية الأذان تثويباً أحق من الإقامة.

وفي الحديث: دليل على فضل الأذان، وانه يطرد الشيطان حتى يدبر عنده وله ضراط، بحيث لا يسمع التأذين.

والأذان والإقامة في هذا سواء.

وضراط الشيطان، محمول على ظاهره عند كثير من العلماء، ومنهم من تأوله، ولا حاجة إلى ذلك.

وفي " صحيح مسلم" عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء".

قال الأعمش: سألته عن الروحاء، فقال: هو من المدينة ستة وثلاثون ميلاً.
وروى النيسابوري، عن بشير بن عمرو، عن عمر بن الخطاب، قال: إذا رأيتم الغيلان فأذنوا بالصلاة.

وروى الحسن، عن سعد بن أبي وقاص، قال: أمرنا إذا رأينا الغول أن ينادي بالصلاة.

خرجهما ابن أبي الدنيا.

وقال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم، وكان معدنا لا يزال الناس يصابون فيه من قبل الجن، فذكروا ذلك لزيد بن أسلم، فأمرهم بالأذان، وأن يرفعوا أصواتهم به، ففعلوا فارتفع ذلك عنهم، وهم عليه حتى اليوم.

قال مالك: وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم.

وفي " صحيح مسلم"، عن سهيل بن أبي صالح، قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة، قال: ومعي غلام لنا - أو صاحب لنا -، فناداه مناد من حائط باسمه.
قال: وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك؛ ولكن إذا سمعت صوتاً فنادي بالصلاة؛ فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص".

وقد قيل في سر ذلك: إن المؤذن لا يسمعه جن ولا أنس إلا شهد له يوم القيامة، كما سيأتي في الحديث بعد هذا، فيهرب الشيطان من سماع الأذان ويضرط؛ حتى يمنعه ضراطه من استماعه، حتى لا يكلف الشهادة به يوم القيامة.
وقيل: إن إعلان التكبير له سر في إذابة الشيطان، وقد جاء في حديث ضعيف: " إذا رأيتم الحريق فكبروا؛ فإنه يطفئه"، والشيطان خلق من النار، فهو يذوب من سماع التكبير وإعلانه.

وكذلك الإعلان بالتهليل:
قال ابو الجوزاء: ما للشيطان طرد عن القلب غير " لا إلا إلا الله"، ثم تلا: { وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46] .

ويكره لمن كان جالس أن يبادر إلى القيام، ولو إلى الصلاة؛ لأن فيه مشابهة بالشيطان في إدباره عند سماع الأذان.

قال الإمام أحمد في رواية الأثرم، وسئل عن الرجل يقوم حين يسمع المؤذن، يبادر يركع؟ قال: يستحب ركوعه بعدما يفرغ المؤذن أو يقرب من الفراغ؛ لأنه يقال: إن الشيطان ينفر حين يسمع الأذان.